تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

Abdulrahman Saud Almusayid عبدالرحمن بن سعود المسيعيد

Lecturer

Department of History

العلوم اﻹنسانية واﻻجتماعية
aalmusayid@ksu.edu.sa
إعلان

تاريخ المشرق الإسلامي

١- الدولة الطاهرية

كانت الدولة الطاهرية دولة فارسية إسلامية، نشأت في ظل الصراع الدائم والمتجدد بين العرب والفرس في العصر العباسي، وساعد على ظهورها ذلك الاتجاه الجديد الذي اتخذته الخلافة العباسية نحو اللامركزية في الحكم والإدارة. وتنسب الدولة الطاهرية إلى طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق، وكان أبوه أحد وجهاء خراسان ومن سادتها في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، وقد ولاه الرشيد بوشنج –إحدى مدن خراسان- والتي تقع بين هراة وسرخس.

وقد ولد طاهر في بوشنج سنة (159هـ = 775م) ونشأ في كنف أسرة عريقة ذات مجد ورياسة، فأخذ عن أبيه الخبرة السياسية والمهارة العسكرية والدراية بفنون الحرب والقتال، وعُنِي أبوه بتربيته وتعليمه، فشب شجاعًا جوادًا مضحيًا. وكان طاهر بن الحسين ذا مكانة خاصة لدى الخليفة المأمون، وهو الذي لقبه بذي اليمنين؛ لشجاعته وجرأته في الحرب.

بعد وفاة هارون الرشيد –سنة (194هـ = 807م)- حدث نزاع حول الخلافة بين ابنيه: الأمين والمأمون، وتصاعد الخلاف إلى حد الحرب والاقتتال، وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بالقتال والصراع، وجد طاهر بن الحسين طريقه إلى تحقيق حلمه الكبير في الاستقلال بخراسان حينما استطاع إلحاق الهزيمة بعلي بن عيسى قائد جيش الأمين، فبالرغم من تفوق جيش علي بن عيسى في العدة والعتاد فإن طاهر استطاع بخبرته العسكرية وقيادته الواعية أن يقود جيشه إلى النصر، محطمًا صلف وغرور علي بن عيسى وثقته المفرطة في قوته وقدراته.

وأسرعت رسل طاهر بن الحسين لتزف إلى المأمون بشرى ذلك الانتصار، حاملة معها كتاب طاهر إليه ورأس علي بن عيسى.

وعندما علم الأمين بهزيمة جيشه ومقتل قائد جنده، أرسل إلى طاهر بن الحسين يتوعده ويهدده، ولكن طاهر لم يبال بتهديده، فأرسل إليه الأمين جيشًا آخر بقيادة عبد الرحمن بن جبلة، ولكن طاهر تمكن بخبرته ومهارته من إلحاق الهزيمة به والاستيلاء على الأهواز، فأرسل الأمين إليه جيشين آخرين لدحره وهزيمته، وفي هذه المرة يلجأ طاهر إلى المكيدة والحرب النفسية، حيث احتال حتى يوقع الخلاف والشقاق بين الجنود، وتمكن –في النهاية- من السيطرة على الموقف وتحقيق النصر

وأدت تلك الانتصارات المتتالية التي حققها طاهر إلى خروج عمال الأمين عن طاعته، والمسارعة إلى خلعه وإعلان الطاعة لأخيه، واتجه طاهر بجيوشه إلى بغداد فحاصرها مدة طويلة حتى ضاق الناس واشتد الجوع، فلما تمكن من دخولها قبض على الأمين ثم أمر بقتله.

بداية ولاية الطاهريين على خراسان

واستقر الأمر للمأمون بالخلافة –سنة (198هـ = 813م)- فأسند إلى طاهر بن الحسين ولاية خراسان وبقية ولايات المشرق، وولّى ابنه عبد الله على الرقة وعهد إليه بحرب نصر بن شبث القائد العربي الذي خرج على العباسيين لتقريبهم العجم.

فلما توفى طاهر –سنة (207هـ = 822م)- عهد المأمون إلى عبد الله بن طاهر بولاية خراسان خلفًا لأبيه، فاستخلف عبد الله عليها أخاه طلحة، فاستمر عليها حتى توفي بعد سبع سنين.

واستطاع عبد الله بن طاهر بن الحسين أن يدفع نصر بن شبث إلى الاستسلام –سنة (209هـ = 824م)- بعد أن وعده بالأمان، فقضى بذلك على واحدة من أخطر حركات التمرد والعصيان التي واجهت العباسيين.

عبد الله بن طاهر في مصر

وبعد ذلك اتجه عبد الله بجيشه إلى مصر التي كانت تموج بالفتن والاضطرابات بعد تمرد ولاتها على سلطان العباسيين، فزحف إليها بجيشه –سنة (211هـ = 826م)- وأرسل إلى عهد بن السري –والي مصر- يدعوه إلى السمع والطاعة للخليفة المأمون، ولكن ابن السري حاول رشوته بهدية كبيرة، أرسلها إليه خفية، فردها عبد الله، وكتب إليه يقول: "لو قبلت هديتك نهارًا لقبلتها ليلاً.. بل أنتم بهديتكم تفرحون".

ولم يجد ابن السري بدًا من الاستسلام، فاستسلم له في (5 من صفر 211هـ = 17 من مايو 826م)، ودخلها عبد الله واليًا عليها.

وقد شهدت فترة ولاية عبد الله بن طاهر على مصر –بالرغم من قصرها- استقرارًا وازدهارًا ملحوظًا في مختلف نواحي الحياة؛ فقد أعاد الأمن والهدوء إلى البلاد بعد أن تمكن من القضاء على الفوضى والاضطراب، كما شهدت العديد من مظاهر العمران، فقد أدخل عبد الله زيادات وتحسينات ملموسة في بناء الجامع العتيق بالفسطاط –جامع عمرو بن العاص- وزاد من عدد أبوابه، ودعم جدرانه، ورقّم مبانيه.

وحفلت كذلك ببعض مظاهر الإصلاح الاقتصادي، وتجلى ذلك في الاهتمام بتحسين أحوال الناس، والارتقاء بظروفهم المعيشية، كما اهتم بتطوير الزراعة.. ومما يذكر له أنه أول من أدخل زراعة البطيخ العبدلي الجيد –نسبة إلى عبد الله- بمصر.

وتميزت فترة ولايته بالعدل والنزاهة وحسن السيرة، والجود وحب الخير، فيروى أنه عندما دخل مصر منحه المأمون خراجها سنة، فصعد عبد الله المنبر، ولم ينزل حتى وزعها كلها على الناس.

حركة بابك الخرمي

وما لبث عبد الله أن ترك مصر بعد أن اطمأن إلى استقرار الأمور بها، واستتباب الأمن والنظام فيها، وعاد إلى بغداد فأرسل الخليفة ابنه العباس، وأخاه المعتصم، وكبار رجال الدولة وأعيانها لاستقباله على مشارف المدينة تكريمًا له وتقديرًا لمكانته، ثم استقبله الخليفة في قصره وأكرمه وأظهر الحفاوة به.

وفي تلك الأثناء ظهرت حركة بابك الخرمي أولى الحركات الخارجة على سلطان الخلافة، والتي كانت واحدة من الفرق الهدامة التي تدعو إلى إباحة الأموال والنساء، وتستحل القتل والغصب.

وأراد بابك أن يحرك مشاعر الفرس لتأييده، فأشاع أنه من نسل فاطمة بنت أبي مسلم الخراساني، وأنه جاء لإقامة دولة الفرس، واستفحلت تلك الحركة، واشتد خطرها بعد أن استحل بابك دماء المسلمين والذميين على حد سواء، وفشلت كل محاولات الخلافة للقضاء عليهم، بعد هزيمة محمد بن حميد قائد الجيش الذي أرسله المأمون لقتال بابك الخرمي ومقتل ابن حميد، وأدى ذلك إلى انتشار الفزع في القرى المجاورة، وازداد نفوذ بابك، وتنامى خطره بعد أن انضم إليه قُطّاع الطرق، وأصحاب النحل الفاسدة، والناقمون على الخلافة.

فأرسل المأمون عبد الله بن طاهر –سنة (213هـ = 828م)- للقضاء على فتنة بابك، فلما علم بابك بقدومه لجأ إلى جبال أذربيجان، لتجنب الهزيمة أمام جيش عبد الله، الذي اضطر إلى رفع الحصار عنه والعودة إلى خراسان.

القضاء على حركة المازبار

كما تصدى عبد الله بن طاهر كذلك لحركة المازبار في جبال طبرستان، وكان المازبار قد خرج على الخليفة المأمون، واشتدت فتنته في عهد الخليفة المعتصم –سنة (218-227هـ = 833-842م)- واعتنق المزدكية واستخف بالإسلام والمسلمين، واشتدت فتنته حتى ضج الناس، وهربوا من طبرستان بعد أن اشتد بها الخراب، فأخرج إليه عبد الله بن طاهر ثلاثة جيوش حاصرته حتى تمكنت من هزيمته وأسره، فساقوه إلى عبد الله في خراسان مكبلاً بالأغلال.

الدولة الطاهرية.. نمط فريد من الحكم والإدارة

وكانت الدولة الطاهرية نمطًا فريدًا من أساليب الحكم، فهي لم تكن دولة منفصلة تمامًا عن الخلافة، كما لم تكن أيضًا ولاية تابعة بشكل مباشر لسلطة الخليفة، يعين عليها الولاة أو يعزلهم، وإنما كانت إمارة شبه مستقلة يحكمها أمير، يتوارث أبناؤه الإمارة من بعده.

وقد عمل عبد الله بن طاهر على توطيد أركان تلك الدولة الناشئة، واهتم بتنظيم النواحي الإدارية فيها، فكان يشدد الرقابة على عماله، ويحاسبهم على ما يخولهم فيه من سلطات إدارية، وكان حريصًا على الكتابة إليهم ومتابعتهم؛ فَسَادَ في عهده العدل والإنصاف.

واهتم كذلك بالنواحي الحربية والعسكرية في إمارته، فقد كان إقليم خراسان –مقر الدولة الطاهرية- يعد من ثغور دولة الخلافة الإسلامية، ومن ثم فقد اهتم بتحصينه، ووضع الفرق والحاميات العسكرية لحماية تلك الثغور، وعندما وجد عبد الله مدينة نيسابور المقر القديم للجند، قد ازدحمت بالجند والسكان، نقل مقر الجند إلى ضاحية جديدة هي الشاذياخ، وذلك لمنع المنافرة بين جنوده وسكان المدينة، وحتى لا يميل الجند إلى الحياة المدنية الوديعة، وظلت نيسابور عاصمة للدولة الطاهرية ومركزًا للحكم.

وعُنِي عبد الله بن طاهر بالقضاء، فنظم مجالس القضاء، واهتم بإقامة الحدود على الجرائم، وكان يعتني باختيار القضاة الذين يتحلون بسعة العلم والدقة والأمانة.

وعمل عبد الله على إيجاد وسيلة اتصال جيدة بينه وبين عماله من جهة، وبينه وبين الخلافة من جهة أخرى، لنقل الرسائل والمكاتبات الرسمية، واهتم بإصلاح وتطوير نظام البريد، وتلافي بعض السلبيات التي كانت تحدث من قبل نتيجة استغلال عمال البريد لوظيفتهم –وكانوا يتبعون الخلافة مباشرة، وينقلون إليها أخبار الولاة- فكان بعضهم يبتز الولاة ويهدد القضاة وعمال الخراج بالإساءة إليهم عند الخلفاء، فاستخدم عبد الله بن طاهر الحمام الزاجل في مراسلاته مع عمال دولته ومكاتباته للخلافة.

الدولة الطاهرية حضارة وثقافة

وشهدت الدولة الطاهرية –في عهد عبد الله بن طاهر- ازدهارًا اقتصاديًا ملحوظًا، فقد اهتم بالزراعة وهو ما أدى إلى تنوع المحاصيل، وشق الترع وقنوات الري، وعندما اشتد النزاع بين المزارعين حول استخدام تلك القنوات أصدر عددًا من التشريعات والقوانين التي تنظم العلاقة بين المزارعين في استخدامها.

كما نشطت بعض الصناعات التي تخصصت في إنتاجها مدن معينة، فاشتهرت مرو بصناعة المنسوجات الحريرية والقطنية، كما اشتهرت أيضًا بصناعة الألبان وتجفيف الفواكه، واشتهرت كركان بصناعة الأخشاب، وتميزت طبرستان بصناعة المفروشات والأكسية الطبرية، وجادت كذلك الصناعات المعدنية وخاصة الحديد في إقليم ما وراء النهر، وكان لصناعة السجاد أهمية خاصة فقد انتشرت تلك الصناعة في إيران منذ القدم، بالإضافة إلى صناعة الجلود والخزف والأسلحة. وقد أدى ذلك إلى رواج التجارة في تلك المناطق، وازدهار أسواقها، وظهور أسواق شهيرة بها مثل أسواق نيسابور وكرمان.

وقد ترك عبد الله بن طاهر أثراً عميقاً في تاريخ عصره وحضارته، وكان أول وال ينظم إدارة خراسان ويحكم إدارتها، وقد قال عنه اليعقوبي: "إنه حكم خراسان كما لم يحكمها أحد من قبله"، وقد وجّه عبد الله اهتمامه إلى إصلاح حال المزارعين، وكان النزاع بين الأهالي من أجل ماء الري أمراً مألوفاً، ولما لم تكن كتب الفقه الإسلامي تحوي حلولاً لهذه القضية، فقد استدعى عبد الله بن طاهر فقهاء خراسان وكلفهم الاشتراك مع فقهاء العراق بوضع قوانين تُنظم استعمال الماء في الري، وكان "كتاب القنى" الذي وضعه هؤلاء الفقهاء هو المرشد لحل قضايا الري، وظل معمولاً به لأكثر من قرنين.

وتوفي عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، وخراج هذه الأعمال كان يوم وفاته 48 مليون درهماً.

النهضة الفكرية والعلمية في عهد عبد الله بن طاهر

كما شهدت الحياة الفكرية والعلمية والثقافية نهضة كبيرة في عهد عبد الله بن طاهر، فكان يشجع العلماء والأدباء والشعراء، وكان عبد الله شاعرًا بليغًا يهتم باللغة العربية وفنونها وآدابها، فالتف حوله عدد من الأدباء والعلماء والفقهاء، منهم أبو عبيد الله القاسم بن سلام –المتوفى سنة (224هـ = 839م)- وكان عبد الله بن طاهر يشمله بالعطف والرعاية، فكان إذا ألف كتابًا أهداه إلى عبد الله فيكافئه على ذلك بالأموال الكثيرة، كما ارتبط كذلك بالشاعر كلثوم بن عمرو العتابي، وكانت بينهما علاقة وطيدة، وارتبط به كذلك يوحنا بن ماسويه الطبيب الشهير، وألف له كتاب: الصداع وعلله وأوجاعه وجميع أدويته.

واستمر عبد الله بن طاهر يبذل جهده في جد وإخلاص لبناء صرح تلك الدولة التي حملت اسم عائلته لأكثر من نصف قرن من الزمان، حتى ينهض بها أبناؤه وأحفاده من بعده، لا يتوانى في سبيل تحقيق هذا الهدف لحظة، ولا يغفل عن تنفيذ تلك الغاية طرفة عين حتى توفى في (11 من ربيع الأول 230هـ = 26 من نوفمبر 844م) عن عمر بلغ (48) عامًا.

الطابع الأخلاقي عند عبد الله بن طاهر

ويبرز الطابع الأخلاقي لدى عبد الله بن طاهر في توجيهاته إلى عماله التي يأمرهم فيها برعاية مصالح الفلاحين، فقد جاء فيها عن الفلاحين "لأن الله عز وجل إنما يطعمنا من أيديهم ويحيينا بألسنتهم ويُحِّرم علينا أن نظلمهم"، وقد ساقه اهتمامه بالطبقات الدنيا إلى فكرة نشر التعليم بين جميع الناس، وهي التي يعبر عنها بقوله: "يجب أن يكون العلم في متناول من يستحقونه ومن لا يستحقونه لأن العلم نفسه أدرى من أن يبقى مع من لا يستحقونه"، ومما لا شك فيه أن عبد الله بن طاهر، وقد عاش في عهد انتصار المذهب العقلي، لم يفهم من لفظ العلم علوم الدين وحدها التي كانت جذورها قد ثبتت آنذاك بخراسان وبلاد ما وراء النهر، وخاصة ببخارى، وقد نال عبد الله ومن قبله أبوه بعض الشهرة في مجال الشعر، كما أن ابن أخيه منصور بن طلحة حاكم مرو وآمل وخوارزم قد دون بعض الرسائل الفلسفية، وكان عبد الله يدعوه بحكيم آل طاهر.

طاهر بن عبد الله بن طاهر

عندما توفي عبد الله بن طاهر ولى الخليفة الواثق أعمال عبد الله كلها ابنه طاهر بن عبد الله (230ـ 248هـ/844 ـ862م) وكان خير خلف لأبيه، والمؤرخون يتحدثون عن أيام حكمه وعن أخلاقه الكريمة، بالقدر من الثناء الذي تحدثوا به عن والده عبد الله بن طاهر.

نهاية الدولة الطاهرية

كانت أخطر الثورات التي شغلت الطاهريين اثنتين؛ حركة الخوارج بسجستان وحركة الشيعة بطبرستان، غير أن العناصر المتمردة لم يشتد ساعدها إلا في عهد محمد بن طاهر، حفيد عبد الله (248 - 259هـ/862 - 872م) الذي خلف أباه في سن الحداثة، ويصوره المؤرخون حاكماً ضعيفاً أسلم نفسه للذات، ففي سنة 250هـ/864م، حدثت ثورة شاملة في طبرستان تزعمها العلويون، وتمكن الحسن بن زيد من سلالة العلويين من جعل نفسه حاكماً على الولاية، وبقي حاكماً لها، فيما عدا فترات قصيرة، حتى عام 271هـ/884م.

وفي عهد محمد بن طاهر استفحلت ثورة الخوارج في سجستان، وأخفق واليها من قبل الطاهريين في إخمادها، فتولى أمر الثورة المتطوعة وعلى رأسهم يعقوب بن الليث الصفار، مؤسس الدولة الصفارية والذي كانت نهاية الطاهريين على يده سنة 259هـ/872م.

وإذا كان حكم الطاهريين قد انتهى في خراسان، فإن مكانتهم في العراق قد استمرت إلى نهاية القرن الثالث الهجري، فقد كان أفراد من سلالة طاهر بن الحسين وابن عمه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يتولون مناصب مهمة في العراق ولاة وأصحاب شرط، كما أن أبناء عبد الله بن طاهر: محمداً وسليمان وعبيد الله وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب نالوا شهرة كبيرة، ليس كقادة عسكريين أكفّاء وحسب، وإنما كحماة للأدب والفنون كالموسيقى والغناء، وقد ألف عبيد الله بن عبد الله كتاباً عن الموسيقى والغناء.

خدم الولاة الطاهريون (205ـ 259هـ/820 ـ872م) الخلافة العباسية بإخلاص وقدموا لهم الولاء والطاعة، وكانوا يرسلون الفائض من الخراج بانتظام إلى العراق، وقد استمر الخلفاء بتعيين ولاة من الأسرة؛ لأنهم وجدوا فيهم خير من يستطيع ضبط الأمور وفرض النظام وإقامة حكم حازم في هذا الجزء المهم من الدولة الإسلامية.

٢- الدولة الزيدية بطبرستان

خرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، بنواحي طبرستان، ونجح الحسن في تكون دولة تعرف بالدولة الزيدية بطبرستان، واقتطع من ملك بني العباس أو آل طاهر طرفاً عظيماً تحميه جبال طبرستان والديلم، واستمرت هذه الدولة نحو قرن كامل 250-355هـ/ 864-966م.

ولم تكن هذه الدولة ذات نظام ملكي ولا مرتاحة من الأعداء، فإن بني سامان قتلوا محمد بن زيد واستولوا على طبرستان إلى سنة 301هـ- 914م، ثم ظهر الحسن الأطروش فاسترد طبرستان من آل سامان، ولكنه قتل في بعض حروبه مع السامانية، فقام بعده الحسن بن القاسم ونازعه أولاد الأطروش، ولم يزل النزاع والخلاف بينهم حتى انتهى أمرهم سنة 355هـ-966م، وانقضى الملك الزيدي من تلك الجبال.

٣- الدولة الصفارية

الصفاريون سلالة حكمت من سنة (247 - 393هـ/861  - 1003م)، في سجستان أو سستان،  إقليم يقع في شرقي إيران، جنوبي خراسان وشمالي بلوجستان، وينقسم إدارياً في الوقت الحاضر بين إيران وأفغانستان.

ينتسب الصفاريون إلى مؤسس دولتهم يعقوب بن الليث الصفار، الذي ينتمي هو وأخوته الثلاثة عمرو وطاهر وعلي إلى قرنين، وهي قرية بسجستان على مرحلة من عاصمة الولاية زرنج.

يعقوب بن الليث الصفار

يعقوب بن الليث الصفار هو من أكبر الأمثلة على علو الهمة وقوة العزيمة التي يمكن أن تسمو بصاحبها من القاع إلى القمة ومن الدنى إلى العلا، هو البطل الشجاع والقائد الهمام يعقوب بن الليث الصفار الملقب بالسندان، والذي كان يعمل في بداية حياته في صناعة الصفر "الأواني النحاسية" بأجر قدره 15درهماً في الشهر.

وكان من الزهاد الشجعان، ومن المتطوعين الذين يحاربون كفار الترك والخوارج في سجستان، والتي عجز إبراهيم بن الحسين والي سجستان للطاهريين عن إخمادها، فغادر الولاية وتركها في أيدي المطوعة، وقد اشتهر يعقوب بن الليث وسط جموع المتطوعين بشجاعته الفائقة في القتال، وارتقى حاله بعزيمته وحب المتطوعين له، حتى صار أميرًا للمتطوعين.

وأوقع يعقوب بن الليث بالخوارج عدة هزائم كبيرة كسرت شوكتهم للأبد بسجستان، فأقبل عليه أهل سجستان وأقنعوه بأن يتولى الإمارة، فغلب يعقوب بن الليث على أمير سجستان سنة 247هـ، فضبط الطرق وحفظها وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ونشر العدل فيها وقضى على المفسدين، فذاعت شهرته وكثر أتباعه فمد سلطانه إلى وادي كابل ثم إلى السند ومكران، ومال إليه أهل مدينة هراة وبوشنج وعرضوا عليه تولي الإمارة عليهم بسبب هجمات الخوارج عليهم، وبعد معارك داخلية مع ولاة هذه المدن أصبح يعقوب الصفار أميرًا عليهم وذلك سنة 254هـ/ 867م.

يعقوب بن الليث والخلافة العباسية

وبعد سنتين وضع يد يعقوب بن الليث الصفار على كرمان فمنح الخليفة المعتز (52 - 256هـ/866 - 869م) هذه الولاية لشخصين في آن واحد هما يعقوب بن الليث، وعلي بن الحسين والي فارس، يريد بذلك إغراء كل منهما بالآخر رغبة بالتخلص من أحدهما، وكان النصر حليف يعقوب الصفار الذي لم يكتف بالسيطرة على كرمان بل انتزع من خصمه فارس أيضاً.

وفي سنة 258هـ/871م، نال يعقوب بن الليث الصفار رضاء الخليفة المعتمد (257ـ279هـ/870ـ892م)، فضم إليه الخليفة ولاية بلخ وطخارستان، وأخيراً صمم يعقوب بن الليث على مهاجمة محمد بن طاهر والي خراسان، فدخل نيسابور دون مقاومة تذكر وأسر محمد ابن طاهر وأنهى حكم الطاهريين سنة 259هـ/873م.

لم تلتزم حكومة بغداد الصمت حيال تصرفات يعقوب بن الليث الصفار، خاصة وأن نفوذ الطاهريين ببغداد كان من شأنه أن يحمل الخليفة على أخذ جانب محمد، فجمع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر صاحب الشرطة سنة 260هـ، الحجاج القادمين من الأقطار الشرقية (خراسان والري وطبرستان وجرجان) وقرأ عليهم كتاب الخليفة يأمرهم فيه بالبراءة من يعقوب الصفار لإنكار الخليفة دخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر، فكان رد فعل يعقوب بن الليث على هذا سيره من خراسان إلى العراق، ولكن قوات الخليفة هزمت يعقوب بن الليث بالقرب من دير العاقول على بعد 50 ميلاً من بغداد في رجب سنة 262هـ، نيسان 876م، وعلى الرغم من هزيمته فقد بقي محتفظاً بفارس وكرمان وخراسان وسجستان حتى موته.

كان اهتمام يعقوب خلال فترة حكمه منصباً على أمرين، الأول خلق جيش قوي يحمل له الولاء التام، والثاني الحصول على الأموال اللازمة لمتابعة حروبه مما دفعه مراراً إلى مصادرة أملاك الأغنياء، وكان جنده باستثناء القادة يتسلمون الخيل والعلف من خزائنه، ولكن يعقوب ظل في حياته الخاصة جندياً بسيطاً يلبس القطن، ويجلس على الأرض فإذا أراد النوم اضطجع على ترسه ونزع راية فجعلها مخدته، وقد أجاب رسول الخليفة الذي سأله عن سبب تقشفه "إن رئيس القوم يأتم به أصحابه في ما يظهر من أفعاله وسيرته، فلو استَعْملتُ ما ذكرت من الأثاث لأثقلنا البهائم ولأتم بي في فعلي من في عسكري، ونحن نقطع في كل يوم المفاوز والأودية والقيعان، ولا يصلح لنا إلا التخفيف".

عمرو بن الليث

توفي يعقوب بن الليث سنة 265هـ/877م، في جند يسابور، فبايع الجند أخاه عمرو بن الليث الذي لجأ إلى أسلوب آخر في نضاله مع خصومه، فاتبع في بادئ الأمر سياسة اللين والمهادنة وتقديم فروض الطاعة للخليفة الذي عيَّنه والياً على خراسان وفارس وأصفهان وسجستان وكرمان والسند، ولكن لم يتم الاعتراف به حاكماً شرعياً لخراسان إلا عندما تولى المعتضد الخلافة سنة 279هـ/892م.

تميز عمرو بن الليث بكفاءَته في إدارة شؤون دولته، وكان الجيش موضع عنايته، إذ كان الجند يتسلمون أرزاقهم كل ثلاثة أشهر وسط عرض مهيب، وكان المسؤول عن دفع أرزاق الجند موظف خاص هو العارض الذي يأخذ مجلسه في المكان المعين للعرض، وعندما يُسمع صوت طبلين هائلين يتجمع الجيش بأكمله في ذلك الموضع، وتوضع أكياس الدراهم أمام العارض في حين يمسك معاونه قائمة بأسماء الجند يناديهم منها، ومما يلفت النظر في الرواية أن عمرو بن الليث كان يُعامَل فرداً من الجند، فإن المنادي كان ينادي أولاً اسم عمرو بن الليث، فيتفقد العارض دابته وآلته بدقه ثم يعرب عن رضاه، ويدفع له 300 درهم، ثم يرجع عمرو فيأخذ مجلسه على صعيد من الأرض ليراقب فرسانه ورجاله يتقدمون بدورهم أمام العارض ليفحص دوابهم وآلتهم ويسلمهم أرزاقهم.

وكان لعمرو بن الليث ثلاث خزائن، الأولى تضم الأموال المجموعة من خراج الأرض وغيرها من الضرائب، وكان يستعمل هذا المال في شؤون جيشه، وكانت الخزانة الثانية تضم الأموال المجموعة من الأملاك الخاصة بالأمير وتصرف على متطلبات بلاطه، أما الخزانة الثالثة فكانت تضم ما صودر من أملاك أتباعه الذين انضموا إلى صفوف أعدائه، ومن هذه الخزانة كان يوزع الصلات على خدمه المخلصين وعلى كبار رجال دولته والسفراء.

تذكر بعض الروايات أنه كان لعمرو بن الليث جواسيس في كل مكان، وأنه كان على علم بكل ما يجري في أراضيه. كما يذكر الموسوي صاحب كتاب "تاريخ خيرات" أن عمراً كان يشتري الغلمان الأحداث ويربيهم في خدمته ثم يهديهم إلى كبار رجال دولته وإلى القادة، وأن هؤلاء الغلمان كانوا ينهون إليه كل أعمال أسيادهم، وكان عمرو بن الليث يمنع أصحابه وقواده أن يضرب أحد منهم غلاماً إلا بأمره.

لم يكتف عمرو بسلطانه على خراسان وفارس وأصفهان وسجستان وكرمان والسند، وإنما أخذ يمد بصره إلى ما وراء النهر، حيث كان سلطان السامانيين قد توطد فيها آنذاك. وفي سنة 287هـ /900م، حدثت معركة قرب بلخ بين قوات إسماعيل بن أحمد الساماني وقوات عمرو بن الليث انتهت بهزيمة عمرو، ووقوعه في الأسر، وإرساله إلى بغداد حيث قتل بعد موت المعتضد بقليل في عام 289هـ/902م.

ضعف الدولة الصفارية

بدأت الإمبراطورية الواسعة التي بناها الأخوان بالانكماش، فقد أسندت ولاية خراسان إلى السامانيين فيما وراء النهر، ولكن خلفاء عمرو وقائدهم التركي سبكَري احتفظوا بفارس وكرمان وسجستان لعقد من الزمان. وفي سنة 298هـ/911م، أسند الخليفة المقتدر حكم سجستان إلى السامانيين، فأرسل السامانيون حملة إلى سجستان أنهت حكم الصفاريين فيها.

بقيت الأوضاع مضطربة في سجستان، فتمكن العيارون سنة 311هـ/923م، من إيصال حفيد من أحفاد الصفاريين إلى حكم سجستان، هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن خلف الذي حكم ما يقارب الأربعين عاماً من 311ـ352هـ/925ـ963م، وقد مد أبو جعفر سلطة الصفاريين إلى بست والرُخَج، وجعل من سجستان قوة في ميدان سياسة العالم الإسلامي الشرقي.

سقوط الدولة الصفارية

خلف أبو جعفر ابنه أحمد بن خلف 352ـ393هـ/963ـ1003م، وقد أنهى محمود بن سبكتكين الغزنوي حكم الصفاريين في سجستان حينما استولى عليها، ومات أحمد بن خلف في الأسر في مدينة كاردبز 

من مآثر الدولة الصفاريين

كان أحمد بن خلف أشهر حكام الدولة الصفارية، فقد جمع حوله مجموعة من العلماء الذين كانوا يتمتعون برعايته، منهم الفيلسوف والعالم في المنطق أبو سليمان محمد المنطيقي (ت 375هـ)، وكان بلاطه مقصد الأدباء والكتاب منهم بديع الزمان الهمذاني، ولكن العمل الذي خلده هو تفويضه لجنة من العلماء بوضع تفسير للقرآن بلغت أجزاؤه 100جزء، ولكن لم يتح لهذا المؤلف الضخم البقاء لأن الغزو المغولي، سبب الدمار والخراب لمدن خراسان ومكتباتها.

كان الصفاريون يعتنقون المذهب السني، ويدعون للخليفة على المنابر لاكتساب رضاء الجماهير، ولكنهم حاولوا تقليص سلطة الخليفة ومشاركته في مظاهر سيادته، فأمر يعقوب بذكر اسمه في الخطبة مع اسم الخليفة، كما نقش أخوه عمرو اسمه على النقود، ولم يرسل الصفاريون فائض خراجهم للخلفاء العباسيين، بل تصرفوا بأموال المناطق التابعة لهم، ولكنهم على الرغم من كل شيء طبقوا مبادئ العدل والمساواة بين أتباعهم فأيدتهم الطبقات الفقيرة.

٤- الدولة السامانية

ينتسب السامانيون (261هـ -875م / 389هـ - 999م) إلى جد الأسرة سامان خداه، الذي ينحدر كما ذكر بعض المؤرخين من أحفاد بهرام بن جوبين البطل الساساني، ويصل نسبهم عند مؤرخين آخرين إلى كيومرث أول ملوك العجم، ولقبُ "خداه" الذي أُطلق على سامان بن ميّا، كان يطلق على أمراء بخارى ودهاقنتها.

وكان أول اتصال لسامان بالدولة الإسلامية في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (105هـ - 125هـ)، عندما وفد على أسد بن عبد الله القسري والى خراسان آنذاك، حيث كانت الاضطرابات وهجمات الأتراك والدهاقين المتكررة التي شهدها إقليم خراسان بشكل عام وبلخ بشكل خاص هي التي أجبرت سامان على الفرار والالتجاء إلى أسد القسري للاحتماء به، فقد كان هذا ملجأ المضطهدين من العرب والفرس على حد سواء، وقد أكرمه وقدم له الحماية وساعده على قهر خصومه وأعاده إلى بلخ، فاعتنق سامان الإسلام على يديه وسمى ابنه أسدًا تيمناً به وحبا له.

ظهور السامانيين

وكان لأسد بن سامان أربعة أبناء اشتهروا في عهد الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ / 796-808م) وهم نوح، أحمد، يحي، إلياس.

وكان أسد بن سامان هذا من جملة أصحاب علي بن عيسى بن ماهان عندما ولاه الخليفة هارون الرشيد أمر خراسان، وتوفي في ولايته، وفي عهد الخليفة هارون الرشيد، خرج رافع بن الليث في ما وراء النهر وبسط سلطته على سمرقند، فأرسل الخليفة ضده جيشاً بقيادة هرثمة بن أعين، وهنا نجد أبناء أسد بن سامان يقفون إلى جانب هرثمة ويشدون من أزره واستطاعوا بجهودهم تلك أن يحملوا رافع بن الليث على عقد الصلح مع هرثمة وبذلك أبعدوا سيطرته عن سمرقند 

وفي خلافة المأمون (198 - 218هـ) لقي أبناء أسد الأربعة احتراماً وتقديراً عند المأمون، حيث قربهم إليه وشملهم برعايته لإخلاصهم في خدمته، فطلب من واليه على خراسان غسان بن عباد أن يسند إلى كل منهم ولاية على أكبر أقاليم بلاد ما وراء النهر.

فأصبح نوح بن أسد واليًا على سمرقند سنة 204هـ/819م وأحمد بن أسد على فرغانة، ويحيى بن أسد على الشاش وأشروسنة، وإلياس بن أسد على هراة، ولما ولى المأمون طاهر بن الحسين خراسان أقرّهم في هذه الأعمال. وقد تمكن هؤلاء أن يثبتوا أنهم أهل للمسئولية التي أنيطت بهم بأن أعادوا الأمن والاستقرار إلى هذه الأقاليم وأكدوا سلطة الخلافة العباسية عليها، ولم تعد هذه الأقاليم كما كانت قبل هذه الحقبة موطناً لحركات التمرد والعصيان على الخلافة، وعلى الرغم من كل ذلك فقد استطاعوا توطيد نفوذهم في إقليم ما وراء النهر واكتسبوا بذلك مكانة رفيعة وسمعة طيبة في أنحاء الإقليم.

وقد برز من هؤلاء الإخوة الأربعة أحمد بن أسد بن سامان الذي أصبح إليه حكم فرغانة والشاس وقسم من الصغد وسمرقند، واستمر في حكم المنطقة حتى وفاته عام 251هـ / 865م.

نشأة الدولة السامانية

نصر بن أحمد الساماني

كان لأحمد بن أسد سبعة أولاد، اشتهر منهم إسماعيل ونصر الذي تولى حكم سمرقند وما يليها من قبل الطاهريين (الدولة الطاهرية). ولما مات أحمد سنة 251هـ / 865م، خلفه ابنه نصرًا وأصبح واليا على فرغانة وسمرقند. وفي سنة261هـ / 875م بعث الخليفة المعتمد (256-279هـ /870-892م) منشورًا إمارة جميع بلاد ما وراء النهر باسم نصر بن أحمد، فاتخذ من سمرقند حاضرة له. وقوي نفوذ نصر بن أحمد وأصبح باستطاعته أن يولي من يشاء على بلاد ما وراء النهر، وأرسل أخاه إسماعيل واليا على بخارى، ولكنّ النزاع لم يلبث أن وقع بين الأخوين بسبب إثارة خصومهما العداوة والبغضاء بينهما، فقامت الحرب بينهما سنة 275هـ وظفر إسماعيل بأخيه نصر فلما حُمل إليه عامل معاملة كريمة وأعاده والياً على سمرقند. وعين باقي إخوته على الولايات التي تنطوي تحت حكمه.

إسماعيل بن أحمد الساماني

وتوفي نصر سنة 279هـ فآلت زعامة السامانيين إلى أخيه إسماعيل بن أحمد الساماني الذي يُعَد المؤسس الفعلي للدولة السامانية، فقد استطاع إسماعيل الانتصار على الصفاريين (الدولة الصفارية)، وضم أراضيهم في خراسان وسجستان إلى ملكه، كما استولى على إقليم طبرستان بعد أن انتصر على واليها محمد بن زيد العلوي.

وقد اعترف الخليفة المعتضد بإسماعيل بن أحمد الساماني سنة 287هـ/900م حاكماً شرعياً في بلاد ما وراء النهر وخراسان بعد انتصاره على عمرو بن الليث الصفاري (ت289هـ). ويعدُّ إسماعيل من أعظم حكام السامانيين بلا منازع في المجالات السياسية والحربية والإدارية على السواء، فقد شهدت الدولة السامانية في عهده، رفاهاً واستقراراً سياسياً حيث اتسعت حدودها وتوطّد استقلالها أكثر من ذي قبل، وقد اتخذ إسماعيل من بخارى عاصمة له فشهدت في عهده ازدهاراً فكرياً واسعاً حيث ترعرعت ونشطت الثقافة الإسلامية.

اتساع رقعة الدولة السامانية

غدا السامانيون قوة كبيرة تحكم أراضي شاسعة امتدت من جهة إلى ممتلكات البويهيين في العراق، ومن الجهة الأخرى إلى أطراف أفغانستان المتصلة بحدود الهند. فقد قام السامانيون بالتوسع غربا على البلاد الإسلامية في خراسان وطبرستان وسجستان، إلا أنهم في نفس الوقت توسعوا أيضا فيما وراء الحدود الإسلامية شرقا، وجاهدوا الأتراك الوثنيين في أواسط أسيا ونشروا الإسلام بينهم، فصارت تركستان سندا للإسلام بعد أن كانت مصدر خطر عليه.

الدولة السامانية والخلافة العباسية

كانت علاقة الدولة السامانية بالخلافة العباسية علاقة مميزة تقوم على أساس المودة والتفاهم، فقد اعتمد العباسيون على أمراء البيت الساماني في إقرار سلطانها في بلاد المشرق وعلى ذلك قام السامانيون بحملات مستمرة لتأمين وصول القوافل التجارية، وحماية الأراضي الإسلامية من غزوات الأتراك.

وكانت علاقة إسماعيل بالعباسيين طيبة، حيث أن السامانيين لم يتجهوا بأطماعهم إلى التوسع ضد جيرانهم من الولايات الشرقية أو أملاك العباسيين، إنما جاء امتدادهم إلى الداخل نتيجة الفراغ الذي حدث على إثر ضعف الدولة الطاهرية، وكذلك حينما قضوا على الصفاريين،كما تمكن من فتح طبرستان وإنتزاعها من يد المتمرد على الدولة العباسية محمد بن زيد العلوي الذي كثرت غاراته على الدولة السامانية. كما ضمّ إلى فتوحاته بلاد الري، وجعل طبرستان تحت السلطة الشرعية للدولة السامانية، وأصبحت الخطبة باسم الخليفة العباسي، وبذلك أمّن حدود دولته من ناحية الغرب.

  وكان السامانيون يتمتعون بالاستقلال الذاتي عن الحكومة المركزية فيما يختص بالإدارة الداخلية، حيث كانوا يولون ولاة الأقاليم في مناصبه
 

أحمد بن إسماعيل الساماني

توفي الأمير إسماعيل سنة 295هـ / 907م بعد أن ساد الرخاء والأمن في البلاد السامانية، كما عرف بعدله وحبه للخير والإحسان، ولا يتهاون مع عماله إذا ظلموا الأهالي، فأقر الخليفة المكتفي (288-295هـ /902-907م) أحمد بن إسماعيل على ولاية أبيه، وسار أحمد على درب أبيه فكان عادلا بين الرعية، ولكنه لم يكن في الحنكة الإدارية والمقدرة الحربية، فكثرت في عهده الاضطرابات ومشاكل أدت بالدولة إلى طريق الاضمحلال، فانقسم البيت الساماني على نفسه طمعا في السيادة، كما أن بعض رجال الدولة عملوا على تحقيق أطماعهم في الوصول إلى السلطة، وضعف شأن أمراء آل سامان حتى أنهم أصبحوا ألعوبة في أيدي كبار رجل الدولة.

نصر بن أحمد بن إسماعيل

لم تطل ولاية أحمد، فقد هجم عليه غلمانه وقتلوه سنة301هـ / 914م، فتولى من بعده ابنه نصر الحكم، وكان عمره ثمان سنوات فكثر الطامعون، لكن سرعان ما قضى على هذه التمردات وذاع صيته بفضل الانتصارات التي أحرزها، حتى أن الخليفة استنجد به في العديد من المرات.

وأتهم نصر بن أحمد بأنه من هواة الإسماعيلية، وذلك عندما اتصل به الداعي المشهور النسفي الذي كان يدعو للمذهب الإسماعيلي، واستطاع بذكائه أن يكسب نصر إلى صفه.

الأمير نوح بن نصر

لكن الأمير نصر وجد نفسه تحت ضغوطات وخطر قواده السنيين، فتخلى عن الحكم لابنه نوح سنة 331هـ / 934م، ومات بعده بقليل، ووجه ابنه نوح اهتمامه للقضاء على الإسماعيلية فدعا الفقهاء لمناظرة النسفي، فلما تغلبوا عليه بحججهم، أمر بقتله.

وتعرض الأمير نوح إلى الكثير من المصاعب والصراعات التي هزت استقرار الدولة ذلك أنه لم يحسن اختيار وزرائه وقواده، ودخل في صراعات شديدة من البيت الساماني ومع البويهيين، وخسر أقاليم مهمة حتى إنه خسر خراسان سنة 343هـ / 954م عندما استولى عليها قائد جيوشه أبو علي بن سيمجور.

ضعف الدولة السامانية

مات نوح عام 343هـ /954م وخلفه ابنه عبد الملك وكان في العاشرة من عمره، وكان ضعيف الهيبة ولم يقم بشيء للمحافظة على وحدة دولته، وتوفي سنة350هـ / 961م. وخلفه أخوه منصور بن نوح، وفي عهده بدأت الدولة في الضعف بسبب خروج بعض القادة عن طاعته، وازداد نفوذ البويهيين الذين امتلكوا أهم أقاليم الدولة السامانية.

مات منصور سنة 366هـ / 977م وخلفه ابنه نوح بن منصور وكان صغير السن وتنافس رجال الدولة بينهم في الملك والرئاسة، كما تدخلت أمه في شؤون الحكم، واضطر إلى طلب المساعدة من سبكتيكن وابنه محمود، وكان عهده مليئا بالثورات والحروب الأهلية ومات سنة 387هـ / 997م،ثم قام من بعده أبو الحارث منصور الثاني بن نوح، وبقي حتى قبض عليه بكتوزون أحد قواده سنة388هـ / 399م وسمل عينه وعيّن مكانه أخاه عبد الملك.

لم يدم حكم عبد الملك طويلا إذ انتهى ملك السامانية في عهده سنة 389هـ / 999م، على يد الغزنويين والأتراك الأيلك خانيون.

اعتماد السامانيين على المماليك الأتراك

لقد اعتمد السامانيون على المماليك الأتراك في جيوشها رغم أصلهم الفارسي، ولقد توسعوا في استخدامهم ووضعوا لهم نظاما تربويا عسكريا إسلامي، يقوم على التدرج والترتيب في تنشئتهم كي يكتسبوا الخبرة اللازمة في مناصب القيادة والإدارة.

يلاحظ إن النظام التربوي الساماني كان الأساس الذي سار على منهجه عدد كبير من الدول الإسلامية، مثل: دولة السلاجقة الأتراك وأتباعها من الأتابكة والأيوبيين اللذين نقلوه إلى مصر والشام وتمخض عن قيام دولة المماليك.

وفي هذا يقول كارل بروكلمان:"وأخيرا انتهى أمر السامانية نتيجة للآفة نفسها التي قضت على العباسيين، ذلك أنهم انتهوا إلى ما انتهى إليه العباسيون من الاعتماد على الأتراك.....، بل لقد ذهب السامانيون من هذه الناحية إلى أبعد، لما كان في حوزتهم من البقاع الشاسعة الآهلة بالأتراك، ما لبثوا تدريجيا، شأنهم في بغداد إلى الرتب العالية في الجيش....حيث أمسوا بعد برهة وجيزة خطرا على الدولة بسبب السلطات الواسعة التي آلت إليهم....".

أسباب سقوط الدولة السامانية

وهكذا في منتصف القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي بدأت علامات الضعف والتدهور تظهر على الدولة السامانية، وظهر هذا في عدد من الثورات التي قادها بعض القادة العسكريين الذين أصبحت غالبيتهم من الأتراك، وتفاقمت الأوضاع بين السامانيين والبويهيين لاختلاف في العقائد والمطامح التوسعية، وكان لاعتلاء عدد من الأمراء العرش بعد إسماعيل، والذين كانوا دونه في المقدرة ومستوى الأحداث أن نجح الغزنويون والقراخانيون في الإجهاز على الدولة السامانية ووراثتها.

فقد دخل محمود بن سبكتكين الغزنوي بخارى وسمرقند ونيسبور وخطب للخليفة العباسي القادر بالله وأزال نفوذ السامنيين من جهة خراسان، أما من جهة بلاد ما وراء النهر فقد أزالها الترك القرخانية وايلخانات تركستان وذلك في سنة 389هـ / 999م. بعد حكم دام حوالي 128 سنة، حكم فيها تسعة أمراء وبهذا دالت الدولة السامانية، وانتهى سيطرة العنصر الفارسي على تلك البلاد.

المؤرخون ومدح الدولة السامانية

إن الحديث عن الدولة السامانية ليأخذ منا صفحات كثيرة، لأن تاريخ هذه الدولة حافل بالأحداث التاريخية التي كان لها منعرجا مهما في تاريخ الإسلام السياسي، وكان لها دورا مهما في إسلام الكثير من المناطق، ويقول المستشرق أرنولد توماس: "إن الإسلام امتد من بلاد السامانيين إلى البلاد المجاورة في تركستان، وإن رعايا الأمراء السامانيين اقتفوا أثرهم في التدين بالإسلام، إذ انه في سنة 394هـ /960م، اعتنق هذا الدين ألف أسرة تركية تقريبا كانت تعيش في بيوت من الخيام ".

ويضيف أرنولد: "أن جيوش الأمير منصور بن نوح دخلت قبل وفاته بلاد الصين، ونشرت الإسلام في أجزاء متعددة. ويجدر بنا أن نذكر دور السامانيين في الحضارة الإسلامية التي ازدهرت في عهدهم حتى كانت بخارى وسمرقند وبلخ تحت حكمهم، منارا للعلوم الدينية يفد إليها الطلاب للدراسة".

وذكر الثعالبي في يتيمته عن بخارى:" كانت بخارى في الدولة السامانية بمثابة المجد وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر..". وكانت مكتبة نوح بن نصر كما يقول ابن خلكان: "عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها ما لا يوجد في سواها، ولا سمع باسمه فضلا عن معرفته".

ويقول المقدسي عن أهل خراسان في العهد الساماني: "إنهم أشد الناس تمسكا بالحق، وهم بالخير والشر أعلم". ووصف أمراءهم: "إنهم أحسن الملوك سيرة، وهذا فضلا عما عرف عنهم من إجلال للعلم وأهله".

بهذا المدح الذي خصّ به المقدسي السامانيين سواء فيما يتعلق بحسن سيرتهم في الحكم، أو في عدلهم مع الرعية أو تكريمهم لأهل العلم، نجد أن هذه الدولة وفرت كل أسباب الحضارة للمشرق الإسلامي، حتى أصبحت دولتهم مركزا لإشعاع العلم، بقيت مخلصة للدولة العباسية حتى سقوطها.

النهضة العلمية والأدبية للدولة السامانية

ورغم أن الدولة السامانية كانت دولة سنية متعصبة، إلا أنها أحيت الآداب والثقافة الفارسية، وجعلت من الفارسية لغة رسمية للدولة. ويشار إلى أن اللغة الفارسية التي كاد استخدامها يتلاشى بسبب سيطرة اللغة العربية، ظلّت مستخدمة على نطاق شعبي في المناطق الشرقية من الخلافة العباسية، وأخذت تعود للاستخدام الثقافي منذ مطلع القرن الرابع الهجري، متخذة الحرف العربي مادة كتابتها.

وقد برز زمن السامانيين عدد من العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة أمثال ابن سينا (ت428هـ) والفارابي (ت339هـ) والبيروني (ت440هـ) والخوارزمي، والفردوسي والسيرافي وغيرهم، وشهد مقر دولتهم تطوراً حضارياً في البناء والعمارة، وظهر معماريون أجادوا بناء القصور والحصون والقلاع كما شهدت ظهور عدد من الفنانين والموسيقيين، ونشطت حركة الترجمة من العربية إلى الفارسية، وألف عدد من العلماء بالفارسية، وحظي الأدب والفكر بعناية الأمراء وتشجيعهم.

ويذكر أن الأمير نوح بن منصور الساماني (ت387هـ) كتب سنة 350هـ إلى أبي سعيد السيرافي النحوي (ت368هـ) يسأله عن بعض مسائل النحو والأدب. وحظي أدب الجغرافية لدى السامانيين بعناية خاصة. ففي مدينة بلخ من دولتهم عاش الفلكي والفيلسوف أبو زيد البلخي (ت322هـ) صاحب المؤلفات الكثيرة في فنون شتى.

بخارى في العصر الساماني

وأصبحت بخارى عاصمة الدولة مركزا من أهم المراكز العلمية الإسلامية، ويرجع الفضل في ذالك إلى سياسة أمراء السامانيين الذين شجعوا العلماء والأدباء والشعراء حتى عاش في كنفهم عدد كبير منهم، أمثال الرودكي أول شاعر غنائي فارسي كبير بعد الإسلام، والطبيب أبي بكر الرازي المسمى بجالينوس العرب وكان صديقا للأمير المنصور بن إسماعيل الساماني وألف له كتاب المنصوري في الطب كعربون للصداقة، والطبيب والفيلسوف ابن سيناء ذهب إلى بخارى وعالج الأمير نوح بن نصر الساماني، ومثل الوزير محمد بن عبد الله البلعمي الذي ترجم تاريخ الطبري إلى اللغة الفارسية سنة 352هـ، والشاعر الدقيقي الذي نظم لنوح بن نصر الساماني منظومة من ألف بيت عن تاريخ الفرس القديم، ثم جاء بعده أبو القاسم الفردوسي الذي وضع ملحمته الشعرية الفارسية المشهورة الشاهنامة (كتاب الملوك).

النهضة الصناعية

امتاز العصر الساماني بنهضة صناعية تتجلى بصورة واضحة في الصناعات الخزفية الجميلة التي اشتهرت بها مدينة طشقند، وفي صناعة الورق التي أخذوها من الصين وامتازت بها مدينة سمرقند أيام السامانيين وعنها انتشرت في بقية العالم الإسلامي، هذا إلى جانب صناعة السجاد والمنسوجات الحريرية 

السامانيون ونشر الإسلام

وقد اهتم السامانيون بنشر الإسلام في صفوف الترك، وقاموا بتغيير استراتيجيتهم في القتال مع الترك؛ وذلك أن السامانيين عدلوا عن أسلوب الدفاع الذي كان متبعاً في وادي سيحون ضد الكفار من الترك منُذ شرع قتيبة بن مسلم في فتح هذه البلاد، وكان هذا الأسلوب القديم يعتمد على إقامة الحصون، وحفر الخنادق التي تحمي المسلمين من غارات الترك المفاجئة، فلما جاء السامانيون عدلوا عن موقف الدفاع من وراء الحصون والخنادق عند وادي سيحون إلى موقف الهجوم على مناطق المراعي لتأديب الأتراك المغيرين، كما عدلوا عن إنشاء وترميم ما تهدم من هذه الحصون، وكان لهذا التطور في طريقة الدفاع عن الأراضي الإسلامية تأثيره على علاقة الإسلام بالتركستان، إذ عبر كثير من سكان ما وراء النهر في جماعات متتابعة إلى مناطق المراعي بل وإلى داخل المناطق الصحراوية حيث أنشأوا مدناً صغيرة في شكل مستعمرات سكانية استقروا بها، وبدأوا منها نشاطهم الاقتصادي.

وواكب هذا النشاط الاقتصادي نشاط ملحوظ في الدعوة إلى الإسلام، قام بالدور الأساسي فيه الدعاة إلى الله المتجردون المخلصون، فقد كان لهذا التطور -بالإضافة إلى ما صاحبه وسبقه من نشاط تجاري- دوره الكبير في تعرف الأتراك على الإسلام، هذا التعرف الذي انتهى بهم إلى الدخول فيه، ومن فضل الله وتوفيقه أن الإسلام الذي انتشر بين صفوف الترك في ظل آل سامان كان الإسلام السني، وقد كان الأتراك متحمسين لهذا المذهب.

 

٥- الدولة الغزنوية

أخذت الدولة الغزنوية اسمها من مدينة غزنة (مدينة عظيمة وهي الحد بين خراسان والهند وقصبة زابلستان، والغزنويون سلالة من أصل تركي)، وكانت عاصمة لدولتهم، ويرجع ظهور هذه الدولة إلى أحد القادة المسلمين المسمى "سبكتكين"، فقد تولى منطقة غزنة من قِبل السامانيين، ثم مد سبكتكين سلطانه في الشرق حيث ضم إقليم خراسان، الذي ولاه عليه نوح بن منصور الساماني في سنة 384هـ، مكافأة له على قمع الثوار في بلاد النهر، لكن سبكتكين اتجه بأعماله نحو الهند، ولم يكن اتجاهه نحو البلاد التي كانت في حوزة السامانيين إلا تلبية لرغبته حين استعانوا به على قمع حركات الخارجين عليهم في خراسان، فقد انضم بقواته إلى نوح بن نصر الساماني في قتال الخارجين في خراسان، وفي قتاله للبويهيين الذين رغبوا في الاستيلاء على خراسان من أملاك السامانيين، واستطاع سبكتكين وابنه محمود مع قوات الدولة السامانية الانتصار على هؤلاء الخارجين، كما انتصروا على بني بويه وأعادوا للسامانيين مدينة نيسابور، وبعودة نيسابور إلى السامانيين ولى نوح الساماني ابنه محمود بن سبكتين عليها، كما ولاه على جيوش خراسان ولقبه بـ "سيف الدولة"، ولقب أخاه سبكتكين بـ "ناصر الدولة" .

وقد ولى سبكتكين منُذ أول الأمر وجهه شطر الأقاليم الهندية فتمكن وعظم، وأخذ يُغير على أطراف الهند، وافتتح قلاعاً، وتمت له ملاحم مع الهنود واشتبك مع أحد ملوكهم -ويدعى جيبال- في حروب طاحنة، واستطاع سبكتكين أن يلحق به الهزيمة سنة 369هـ وأجبره على طلب الصلح على مال يؤديه وبلاد يسلمهما وخمسين فيلاً يحملها إليه، فاستقر ذلك ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد، وسير معه سبكتكين من يتسلمها، فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين وجعلهم عنده عوضاً عن رهائنه، فلما سمع سبكتكين بذلك ..

سار نحو الهند فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم، وقصد "لمغان" وهي من أحسن قلاعهم فافتتحها عنوة، وهد بيوت الأصنام وأقام فيها شعائر الإسلام .. ثم عاد إلى غزنة وسار خلفه جيبال في مائة ألف مقاتل، فلقيه سبكتكين وألحق به هزيمة كبيرة وأسر منهم ما لا يعد وغنم أموالهم وأثقالهم، وذل الهنود بعد هذه الموقعة، ولم يكن لهم بعد راية، ورضوا بألا يطلبوا في أقاصي بلادهم، ولما قوى سبكتكين بعد هذه الموقعة أطاعه الأفغان ، وكانت دولته نحواً من عشرين سنة، وكان فيه عدل وشجاعة ونبل مع عسف ، وبعد وفاته عام 378هـ عهد بالإمرة إلى ابنه إسماعيل، واستطاع ابنه محمود أن ينتزع الإمارة من أخيه إسماعيل بعد قتال مهول .

محمود بن سبكتكين الغزنوي

من المؤسف حقاً ألا يعرف كثير من المثقفين وخريجي الجامعات شيئاً عن هذا السلطان السني العظيم ومملكته في بلاد الأفغان، وما كان عليه من حب للعمل وتقرب إلى الله بحمل راية الدعوة وبث روح الجهاد والاستشهاد في جنده، ونشر السنة، وقمع البدع، وما كان يتحلى به من قيم إسلامية مثلى كان لها أعمق الأثر في ازدهار مملكته والتفاف الناس حوله في محبة وتفان ووفاء . إن سيرة السلطان محمود بن سبكتكين ودولته السُّنية تستحق أن تُفرد لها دراسة خاصة بها وندعو طلاب العلم والمهتمين بالتاريخ الإسلامي وفق منهج أهل السنة والجماعة إلى القيام بهذا الواجب لسد ثغرة في المكتبة الإسلامية ويوضح أهمية الالتزام بالسنة وأثر ذلك في قوة الدولة وينسف أكاذيب وشبهات الرافضة والباطنية حول هذا البطل السني العظيم، ومع هذا لا يمنع من الحديث عنه في هذه العجالة، فقد وصفه ابن كثير بالملك العادل الكبير ، المرابط المؤيد المنصور المجاهد يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين صاحب بلاد غزنة وتلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهراً، وكاسر بُدودِهم ، وأوثانهم كسراً، وقاهر هنودهم وسلطانهم الأعظم قهراً. وقد سار في الرعية سيرة عادلة وقام بأعباء الإسلام قياماً تاماً، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه في العالمين، واتسعت مملكته وامتدت رعاياه وطالت أيامه، ولله الحمد والمنة، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة العباسي القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من الديار المصرية تَفِد إليه بالكتب والهدايا والتحف فيحرق كتبهم ويُخرّق حللهم ، ولما قدم التاهرتي الداعي مندوب الدعوة الفاطمية من مصر على السُّلطان يدعوه سراً إلى مذهب الباطنية، وكان التاهرتي يركب بغلاً يتلون كل ساعة من كل لون، ففهم السلطان محمود سِرَّ دعوتهم، فغضب، وقتل التَّاهَرتي الخبيث، وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد الأزدي شيخ هراة، وقال: "كان يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس المُوحَّدين" .

فتوحات محمود بن سبكتكين

وأما فتوحات السلطان محمود الغزنوي فقد اتفقت له في بلاد الهند فتوحات لم تتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط كثرة من الذهب واللآلئ والسَّبْي، وكسر من أصنامهم وأبدادهم وأوثانهم شيئاً كثيراً جداً، بيَّض الله وجهه وأكرم مثواه، وكان من جملة ما كسر من أصنامهم صنم عظيم للهنود يقال له سُومَنات [13]، الذي كان يعتقد كفرة الهند أنه يحيى ويُميت ويحُجُّونه، ويقربون له النفائس، بحيث إن الوقوف عليه بلغت عشرة آلاف قرية، وامتلأت خزائنه من صنوف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألفا نفس، ومائة جوقة مغاني رجال ونساء، فكان بين بلاد الإسلام وبين قلعة هذا الصَّنم مفازة نحو شهر، فسار السلطان في ثلاثين ألفاً، فيسَّر الله فتح القلعة في ثلاثة أيام، واستولى محمود على أموال لا تحصى ، بلغ ما تحصل منه من الذهب عشرين ألف دينار، وكسر ملك الهند الكبير جيبال وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: إيلك خان، وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا بخراسان مائة سنة بلاد سمرقند وما حولها، ثم هلكوا، وبنى على جيحون جسراً غرم عليه ألْفيْ ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره من الملوك، وكان معه في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذه أمور هائلة ومرتبة طائلة، وجرت له فصول ذكر تفصيلها يطول.

أخلاق محمود بن سبكتكين

وكان في غاية الديانة والصيانة، يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم ويحسن إليهم، وكان حنفيّ المذهب، ثم صار شافعياً على يدي أبي بكر القفال الصغير وكان صادق النية في إعلاء الدين، مظفراً كثير الغزو، وكان ذكياً بعيد الغور صائب الرأي، دخل ابن فورك على السلطان محمود، فقال: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقية لأنَّ لازم ذلك وصفه بالتحتية، فمن جاز له أن يكون له فوق، جاز أن يكون له تحت. فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني، بل هو وصف نفسه، فبهت ابن فورك، فلما خرج من عنده مات . وكان السلطان محمود مُكرماً لأمرائه وأصحابه، وإذا نقم عاجل، وكان لا يفتر ولا يكاد يَقِرُّ، وكان يعتقد في الخليفة العباسي ويخضع لجلاله ويحمل إليه قناطير الذهب، وكان إلباً على القرامطة والإسماعيلية وعلى المتكلمين  وعندما ملك الري كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة البويهي من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة ولدن له نيفاً وثلاثين ولداً، ولما سئل عن ذلك قال: هذه عادة سلفي، وصلب من أصحاب الباطنيين خلقاً كثيراً، ونفى المعتزلة إلى خراسان وأحرق كتب الفلسفة والنجوم .

الصراع الغزنوي السلجوقي

تمكن السلطان محمود الغزنوي من توسيع حدود دولته فغزا الهند سبع عشرة غزوة ووصلت حملاته إلى هضبة الدكن وضم إلى دولته كذلك إقليم البنجاب وأخضع بلاد الغزنويين "غزنة وهراة" ومدَّ نفوذه إلى بلاد ما وراء النهر ، وبذلك أصبحت حدود دولته تمتد من شمال الهند في الشرق إلى العراق في الغرب، ومن خراسان وطخارستان وجزء من بلاد ما وراء النهر في الشمال إلى سجستان في الجنوب، وقد اتخذ من مدينة لاهور مقراً لحكمه في الهند حيث عين نائباً له هناك ، فلا غرابة في أن أخذ يرنو إلى القضاء على البويهيين في بغداد . 

وكانت قوة السلاجقة في بلاد ما وراء النهر قد تعاظمت في بداية القرن الخامس الهجري مما أثار حفيظة السلطان محمود الغزنوي فقام في سنة 415هـ بعبور نهر جيحون لمقاتلتهم، فنجح في القبض على زعيمهم أرسلان وولده قتلمش وعدد من كبار أصحابه وبعث بأرسلان إلى الهند حيث مات في السجن بعد أن قضى فيه سبع سنوات وبعد أربع سنوات 419هـ خرج السلطان محمود لقتال السلاجقة مرة أخرى بناء على التماس سكان مدينتي (نسا) و "باورد" فأنزل بهم هزيمة ساحقة .

السلطان مسعود الغزنوي

ظل السلاجقة بعد الهزيمة يتحينون الفرص للثأر من الغزنويين فكان لهم ذلك بعد وفاة السلطان محمود وقيام ابنه مسعود بمهام السلطنة عام 421هـ، حيث تمكنوا من الانتصار على جيوشه ، لكنهم اتصلوا به وعرضوا عليه الصلح والدخول في طاعته فاستجاب لهم ومنح زعماءهم الولايات وأسبغ عليهم الألقاب وأغدق عليهم الخلع .

معركة دندانقان

وعلى الرغم من ذلك فقد كان الغزنويون يدركون مدى الخطر الذي كان يشكله السلاجقة عليهم؛ لذلك فقد أمر السلطان مسعود عامله على خراسان سنة 429هـ بقتال السلاجقة فدارت الحرب بين الطرفين قرب مدينة سَرخس وقد انتهت دولتهم حيث اندفعوا بعدها بقيادة زعيمهم ظفر بك نحو نيسابور التي دخلها وأعلن نفسه سلطاناً على السلاجقة وجلس على عرش السلطان مسعود الغزنوي في السنة نفسها 429هـ، وكان من نتيجة ذلك أن زحف مسعود بجيوشه نحو خراسان واشتبك مع السلاجقة بمعركة حاسمة في مكان يعرف باسم دندانقان، انتهت بهزيمة الغزنويين وكان ذلك عام 432هـ/1040م.

 

نتائج معركة دندانقان

- وضعت معركة دندانقان حداً نهائياً لحكم الغزنويين في خراسان، ونصَّب طغرل بك التخت في مكان المعركة وجلس عليه، وجاء الأعيان يسلمون عليه بإمارة خراسان.

- حرَّر طغرل بك الرسائل على الأمراء المجاورين لإعلامهم بخبر الانتصار.

- طاردت القوات السلجوقية القوات الغزنوية المنهزمة حتى شواطئ نهر جيحون بهدف قسرهم على الهرب إلى ما وراء النهر، حتى يقدموا برهاناً ملموساً على النصر.

- أتاحت المعركة قيام سلطنة إسلامية جديدة، وانحسار ظل واحدة، كما تُعدَُ إحدى المعارك الكبرى الفاصلة في التاريخ الإسلامي، بل إن نتائجها تعدت العالم الإسلامي وأثرت على عالم العصور الوسطى .

- أعرب مسعود من ناحيته في رسالة أرسلها إلى القراخانيين عن ثقته في قيامهم بمساعدته في حملته المقبلة لاستئصال شأفة السلاجقة، غير أن صدمة الخسارة قد أذهلته لدرجة فقد معها الرغبة في المقاومة، فخيل إليه أنه لا بد من ترك ليس بلخ وتوابعها بل وغزنة أيضاً، على الرغم من محاولات أركان حربه وكبار رجال دولته إقناعه بانتفاء أُسس هذه المخاوف وقرر الانسحاب نهائياً إلى الهند .

مودود بن مسعود (432ـ441هـ )

لم يلبث السلطان مسعود أن لقي مصرعه عام 432هـ، فخلفه ابنه مودود، وقد أصبح السلاجقة بعد معركة دَنَدانقان أكبر قوة في خراسان في حين كان الغزنويون قد ضعفوا بعد أن فقدوا غالبية جيوشهم وخسروا العديد من ممتلكاتهم . تقدم مودود بن مسعود الغزنوي (432ـ441هـ) بسرعة من بلخ إلى كابل للوقوف في وجه السلاجقة وانتقم من قاتلي أبيه، إلا أن محاولاته إيقاف التقدم السلجوقي في فارس باءت بالإخفاق، وفي سنة 436هـ، هدد السلاجقة غزنة فتصدى لهم القائد الغزنوي نوشتغان، ورد هجومهم ونجح في إنقاذ موطن الغزنويين، كما بقيت للسلالة ممتلكاتها في الهند على الرغم من فقدانهم لبعض المناطق مؤقتاً، وتوفي مودود سنة 441هـ في غزنة حينما كان يهيئ نفسه للقيام بحملة ضد السلاجقة.

الصراع داخل البيت الغزنوي

حدثت إثر وفاة مودود بن مسعود الغزنوي صراعات دموية بين عدد من المطالبين بالسلطة واستمرت حتى وصول فرخزاد بن مسعود الأول (444ـ451هـ) إلى سدة الحكم، وقد نجح فرخزاد بمساعدة القائد نوشتيغان في صد السلاجقة الذين كانوا في هذه الأثناء يتقدمون نحو بغداد والأناضول، وعقد أخوه إبراهيم (451ـ492هـ) الذي خلفه معاهدة صداقة مع السلاجقة متنازلاً لهم عن الختلان، والصغانيان وقباديان، فوعده السلاجقة أن يتخلوا عن سياستهم التوسعية نحو الشرق.

برهن إبراهيم على أنه ديبلوماسي قدير وسياسي حاذق، قادر على حماية ممتلكاته، وقد وجه اهتمامه ما بين سنة 465 و468 إلى الهند، فاستولى على عدد من القلاع وأعاد تثبيت سلطان الغزنويين في البنجاب، ثم ترك متابعة الحملات نحو الهند لابنه سيف الدولة محمود، وعينه حاكماً على لاهور، فاستولى مباشرة على أغرا ومعاقل أخرى، لكنه عندما حاول الاستيلاء على السلطة من أبيه سُجن هو وبعض أتباعه.

توفي إبراهيم سنة 493هـ/1099م بعد حكم دام 40 سنة وخلفه ابنه مسعود الثالث الذي حافظ على أواصر الصداقة والمصاهرة مع السلاجقة، فلما توفي سنة 508هـ اندلعت المنازعات العائلية وتولى ثلاثة من أبنائه بالتتابع الحكم، ابتدأه شيرزاد الذي اضطر بعد سنة من الحكم سنة 509هـ إلى الفرار إلى طبرستان أمام أخيه ملك أرسلان، ثم فرّ ملك أرسلان إلى الهند بعد هزيمته أمام أخيه بهرام شاه الذي كان قد حصل على دعم السلطان سنجر السلجوقي. وقد كان على بهرام شاه أن يعترف بسيادة السلاجقة وأن يدفع ضريبة باهظة ذكرت بعض المصادر أنها بلغت 1000 دينار يومياً، ومع أن هذه الشروط كانت مجحفة؛ لكنها حفظت لبهرام شاه حكماً هادئاً، ومكنته من تثبيت سلطانه في البنجاب بعد ثلاث حملات قام بها سنة 512هـ، 514هـ، 523هـ.

سقوط الدولة الغزنوية

بقي بهرام شاه معترفاً بسيادة السلاجقة، مع أنه حاول سنة 530هـ/1135م، دون جدوى التخلص من سيادة سنجر ومن دفع الضريبة الباهظة، ولكن علاقته مع الغوريين تدهورت عندما اغتال بهرام بالسم أحد أفراد الأسرة الغورية في أثناء زيارته غزنة، وأعدم شنقاً أخاً له مع عدد من أتباعه بعد هزيمته في معركة ضده، فكان لهذه الجرائم أثرها السيئ في غزنة، إذ انتقم لمقتلهما علاء الدين حسين الغوري انتقاماً مريعاً فهاجم غزنة ودمّرها وقتل ونهب وسبى وهجّر سكانها، وفرّ بهرام شاه ولم يعد إلا بعد أن أسر السلاجقة علاء الدين حسين، ولكن إمبراطورية أجداده أصابها التدهور فقد اقتصر حكم ابنه خسرو شاه على غزنة وزابلستان وكابل إضافة إلى البنجاب، في حين استولى الغوريون على زامنداور وبست ثم على تيجن أباد سنة 552هـ

أما ابنه وخلفه خسرو ملك فقد رأى ممتلكاته تتضاءل شيئاً فشيئاً حتى لم يبق للدولة الغزنوية من وجود، فقد استولى الغوريون على غزنة، ونجح أحد أفراد الأسرة الغورية وهو شهاب الدين الغوري في الاستيلاء على الملتان سنة 571هـ وعلى بيشاور سنة 575هـ، ثم أجبر خسرو ملك سنة 583هـ على الاستسلام بعد أن حوصرت لاهور عاصمة البنجاب مراراً، فأُخذ سجيناً ثم أُعدم مع أبنائه 

في أواخر سنة 585هـ/1190م، وانتهت بذلك سلالة سبكتكين، ولم يبق من هؤلاء الحكام العظام إلا ذكراهم التاريخية.

الحياة الفكرية والحضارية في الدولة الغزنوية

سادت الثقافة الفارسية في عصر الدولة الغزنوية، وعاش في كنف هذه الدولة الشاعر الإيراني الفردوسي أعظم شعراء الفرس، ونال جائزة السلطان محمود الغزنوي على ملحمته الخالدة "الشهنامة"، وكتب أبو نصر العتبي (ت428هـ) تاريخاً عن حياة محمود الغزنوي وجهاده إلى سنة 409هـ وسماه "التاريخ اليميني" نسبة إلى لقبه يمين الدولة، وألف هذا الكتاب باللغة العربية لما رآه من كثرة كتابات الأدباء باللغة الفارسية عن السلطان محمود، كذلك عاش في كنف الغزنويين في غزنة المؤرخ والعالم أبو الريحان البيروني (ت 440هـ) الذي أهدى كتابه "القانون المسعودي" للسلطان مسعود بن محمود الغزنوي وأهدى كتابه في الأحجار الكريمة للسلطان مودود بن مسعود، وألف كتابه المشهور "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، كذلك ألّف المؤرخ الفارسي أبو الفضل محمد بن حسين البيهقي (ت 470هـ) بالفارسية كتاباً للسلطان مسعود ووالده محمود الغزنوي عرف بتاريخ البيهقي

٦- الدولة الغورية

كان لعز الدين حسين سبعة أولاد قسم إمارته بينهم، وصل أربعة منهم إلى الحكم، الأكبر بينهم الملك فخر الدين مسعود الذي ولي إمارة طخارستان، وصار مؤسس شعبة الغوريين في باميان، ومنهم قطب الدين محمد (ملك الجبال)، وقد قتله حموه بهرام شاه الغزنوي، فهب أخوه سيف الدين سوري (والي غور) واحتل غزنة انتقاماً له (543هـ/1148م).

لكن تبدل وضع سيف الدين في السنة التالية؛ إذ تمكن بهرام شاه من قتله بعد أن دخل مقره، وهذه الحادثة أوقعت غزنة في مصيبة أشدّ من سابقتها، ذلك أن أخاه علاء الدين حسيناً جاء منتقماً له، وأحرق غزنة وخربها وعاد إلى غور، ولهذا لقب جهانسور (أي حارق الدنيا). 

السلطان غياث الدين الغوري

وتولى بعده ابنه محمد الذي سلبه الغز غزنة وغيرها، وقُتِلَ على أيديهم، واسترجع غزنة خلفه وابن عمه أبو الفتح غياث الدين محمد بن سام (569هـ/1173م)، ونجح في الانفصال عن الدولة الغزنوية التي ضعفت، وتمكن من إدخال ممتلكاتها في أفغانستان والهند في دائرة نفوذه، بعد أن عقد العزم على استئصال شأفة آل سبكتكين ليضمن الاستقرار لدولته بفضل أخيه وقائده شهاب الدين الذي ولاه غزنة، والذي أعد جيشاً استولى على ممتلكات الغزنويين غير الهندية، ثم عبر السند وحاصر لاهور آخر معاقل الغزنويين التي سقطت على الرغم من مقاومة خسرو شاه آخر الحكَّام الغزنويين (582هـ/1186م)، ثم استولى على البنجاب. 

اتسع ملك الغوريين، وكثر جندهم، واستقر سلطانهم، وتلقَّب أبو الفتح غياث الدين بالسلطنة، واكتسب سلطانه الصفة الشرعية باعتراف الخليفة العباسي المعاصر، الناصر لدين الله (575-622هـ/1179- 1225م)، وتم تبادل الهدايا بين الطرفين.

اصطدم الغوريون بالسلاجقة زمن السلطان سنجر، وضموا إلى دولتهم هراة، وبوشنج، وباذغيس، وبست، وجورجانا وكرمان وغيرها، وقد وجه الغوريون أنظارهم للتوسع في بلاد الهند بسبب صعوبة الزحف إلى وسط آسيا، حيث الدولة الخوارزمية ودولة الخطا، ذلك أن أمراء شمالي الهند الراجبوتيون أضعفتهم الانقسامات، ولأنهم كانوا حديثي العهد بالإسلام، وتَحْدُوْهُمُ الرغبة في الجهاد لنشره في هذه المنطقة التي لا تزال وثنية.

معركة شاندران

وجه السلطان غياث الدين جيشه بقيادة أخيه شهاب الدين فاستولى على الملَّتان (570هـ/1174م)، ثم ضمَّ بيشاور وواصل تقدُّمه في أرض السند، وقد حاول حكَّام الهند وقف النفوذ الغوري واشتبكوا معهم في معارك عدة، أهمها:

معركة شاندران التي انتصر فيها الغوريون (590هـ/1194م)، وكان لها آثار بعيدة المدى في شمالي الهند، حيث تمكَّن الغوريون من فتح قنوج، وزحفوا إلى بنارس، واستولوا على جاولار ونهرواله (593هـ/1196م)، وعلى إقليم بهار والبنغال (595هـ/1197م)، وكالنجار (599هـ/1202م)، مما زاد في نفوذهم وهيبتهم، وسيطروا على الأراضي شمالي الهند كلها، وشيدوا فيها المساجد، وأصبح الطريق مفتوحاً أمامهم إلى دلهي فوقعت في أيديهم، وولي عليها قطب الدين أيبك الذي أسس سلالة المماليك الأتراك في دلهي، واتسعت حدودهم لتصل إلى حدود الصين.

حقَّق الغوريون هذه الانتصارات لمهارتهم في إدارة العمليات الحربية، إضافة إلى فقدان الهند للوحدة السياسية، ولأن الإسلام أعطى الغوريين حماساً وقوة للجهاد في سبيل الله، ونجحوا في إقامة دولة إسلامية في شمالي الهند لها تقاليدها ومقوماتها، بسبب تولي الحكم فيها من قبل رجال أكفاء عملوا على تثبيت الحكم.

شهاب الدين الغوري

ويُعَدَّ شهاب الدين الغوري (الذي حمل لقب معز الدين سام، وعرف باسم محمد الغوري، وتولى السلطنة بعد غياث الدين) الحاكم الحقيقي للبلاد وواضع أساس إمبراطورية المسلمين في الهند، إذ قاد معظم الفتوحات طوال عهد غياث الدين الذي كان ملكاً عظيماً على قلة حروبه، وكان ذا هيبة، جواداً حسن العقيدة، بنى المساجد، والمدارس الشافية، والخانقاهات في الطريق وأوقف عليها الأوقاف الكبيرة، وأسقط الضرائب، وكان بلاطه ملجأ الشعراء والعلماء وأصحاب الزهد والتقوى، وكانت له مجموعة من الوزراء المشهورين على مدى حكمه الذي استمر أكثر من 40 سنة (558-599هـ/1162-1202م).

الصدام بين الدولة الغورية والدولة الخوارزمية

اشتُهرت غور بتصديرها للدروع والأسلحة وكلاب الحراسة والرقيق، وفي الوقت نفسه الذي كانت تتسع وتزدهر فيه الدولة الغورية، كانت الأسرة الخوارزمية قد رفعت لواء السلطنة في خوارزم وما وراء النهر، وأسست دولة فاقت دولة الغور في القوة في عهد السلطان علاء الدين تكش (568-596هـ/1172-1199م)، وكان لابد من الصدام بين الدولتين المتجاورتين بسبب طمع كل منهما في الاستيلاء على الأخرى أولاً، ثم بسبب الخليفة العباسي الذي كان في عداء شديد مع الخوارزميين، وظل يحرض الغوريين على مهاجمتهم ليأمن شرهم، فوقعت بين الدولتين صدامات عديدة، حتى إن الخوارزميين تحالفوا مع الأتراك القراخطائيين في كاشغر للوقوف في وجههم.

اضطربت الدولة الغورية اضطراباً شديداً بعد وفاة السلطان شهاب الدين (603هـ/1206م) الذي لم يحكم سوى سنتين بعد أخيه ولم يكن له وريث لعرشه، فتنافس الأمراء والقواد على عرش السلطنة مما أضعفها.

نهاية الدولة الغورية

بدأت متاعب الغوريين في الهند بدايةَ القرن (7هـ/13م)، وذلك أن بعض الولايات الهندية خرجت عليهم منتهزة فرصة انشغالهم بالحروب في إيران مع الخطا والخوارزميين الذين انتزعوا منهم بلاد خراسان ثم ممتلكاتهم في أفغانستان، وتمكنوا من السيطرة على فيروزكوه (612هـ/1215م) من علاء الدين محمد بن شجاع الدين علي، وقضوا على الدولة الغورية تماماً بعد أن أُنهكت قواها بما شنته من حروب على الخطا والخوارزميين والهنود. 

٧- الدولة الخوارزمية

نشأت الدولة الخوارزمية بين أحضان دولة السلاجقة التي حكمت مناطق واسعة في الشرق الإسلامي، فقد ظهر في عهد السلطان السلجوقي ملكشاه بن ألب أرسلان مملوك نابه في بلاطه، يسمى "أنوشتكين" نجح في أن يحظى بتقدير السلطان ونيل ثقته، فجعله واليًا على إقليم خوارزم، وظل على ولايته حتى وفاته سنة (490هـ = 1097م).

قطب الدين محمد خوارزم

لما مات أنوشتكين خلفه ابنه قطب الدين محمد، وكان على مقدرة وكفاية مثل أبيه، فظل يحكم باسم الدولة السلجوقية ثلاثين عامًا (490هـ = 521هـ)، نجح في أثنائها في تثبيت سلطانه، ومد نفوذه، وتأسيس دولته وعُرف باسم خوارزم شاه، أي أمير خوارزم، والتصق به اللقب وعُرف به.

أتسز بن قطب الدين محمد خوارزم

وبعد وفاة محمد خوارزم سنة (522هـ =1128 م) خلفه ابنه "أتسز" بموافقة السلطان السلجوقي سنجر، وكان أتسز واليًا طموحًا مد بصره فرأى دولة السلاجقة توشك على الانهيار، فتطلع إلى بسط نفوذه على حسابها، واقتطاع أراضيها وإخضاعها لحكمه، ودخل في حروب مع السلطان سنجر الذي وقف بالمرصاد لطموحات أتسز، ولم يمكنه من تحقيق أطماعه، وأجبره على الاعتراف بتبعيته له، وظل يحكم خوارزم تحت سيادة السلاجقة حتى وفاته في سنة (551هـ = 1156م).

السلطان الخوارزمي علاء الدين تكش

وفي الوقت الذي بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة السلجوقية كانت الدولة الخوارزمية تزداد قوة وشبابًا، حتى تمكنت من إزاحة دولة السلاجقة والاستيلاء على ما كان تحت يديها من بلاد، وكان السلطان "تكش" بطل هذه المرحلة، وتعد فترة حكمه التي امتدت أكثر من ربع قرن (568-596هـ = 1173-1200م) العصر الذهبي للدولة الخوارزمية.

السلطان الخوارزمي علاء الدين محمد

ولما توفي علاء الدين تكش سنة (596هـ =1200م) خلفه ابنه علاء الدين محمد، وكان كأبيه طموحًا يتطلع إلى توسيع دولته وبسط نفوذها، فدخل في حروب مع جيرانه، فاستولى على معظم إقليم خراسان، وقضى على دولة الخطا سنة (606هـ = 1209م)، واستولى على بلاد ما وراء النهر، وأخضع لسلطانه مكران وكرمان والأقاليم الواقعة غربي نهر السند، وسيطر على ممتلكات الدولة الغورية في أفغانستان، وبلغت بذلك الدولة أقصى اتساعها في عهده، حيث امتدت من حدود العراق العربي غربًا إلى حدود الهند شرقًا، ومن شمال بحر قزوين وبحر آرال شمالاً إلى الخليج العربي والمحيط الهندي جنوبًا.

ظهور جنكيزخان

وتزامن مع اتساع الدولة الخوارزمية وازدياد نفوذها ظهور التتار (المغول)، وبروز دولتهم على يد "تيموجين" المعروف بجنكيزخان الذي نجح في السيطرة على قبائل المغول، وإحكام قبضته عليهم، وما كاد يهل عام (602هـ = 1206م) حتى كان قد أخضع لسلطانه كل بدو صحراء جوبي، واتخذ من مدينة "قراقورم" مقرًا له، ووضع للقبائل الخاضعة لها نظامًا يحكمها وقوانين يحتكمون إليها، سميت بالياسا، وهو دستور اجتماعي وعسكري صارم، أساسه الطاعة العمياء للسلطان.

وبعد أن رسخت أقدام جنكيزخان ووثق من قوته تطلع إلى توسيع رقعة دولته، ومد بصره إلى بلاد الصين، حيث الخصب والنماء، فشن حملات عليها، واستولى على مساحات شاسعة من بلاد الصين وتوج جهوده بالسيطرة على العاصمة بكين سنة (612هـ = 1215م).

الاحتكاك بين الدولتين الخوارزمية والمغولية

تجاورت الدولتان القويتان الخوارزمية والمغولية، ولم يكن هناك مفر من الصدام بينهما، وكان كل منهما ينتظر الفرصة للانقضاض على الآخر، وحدث ما لم يكن منه بد، فالتقى السلطان محمد خوارزم وهو في طريقه إلى إحدى الغزوات بفرقة من الجيش المغولي كان يقودها "جوجي بن جنكيزخان"، وعلى الرغم من ضخامة جيش الخوارزميين، فإنه لم يفلح في تحقيق نصر حاسم على تلك الفرقة لمهارتها في القتال وأساليبها المبتكرة في الحرب التي اندهش لها الجيش الخورازمي.

وكان لهذا اللقاء أثر في نفس السلطان الخوارزمي، فاستشعر الخوف من هؤلاء الجيران الجدد، ولم يأمن غدرهم، فبدأ يتابع أخبارهم، ولما وصلت إليه أنباء استيلاء جنكيزخان على بكين لم يصدق هذه الأخبار، وأرسل وفدًا إلى بكين للوقوف على جلية الأمر، ومقابلة جنكيزخان، فلما وصل إلى هناك استقبلهم وأحسن وفادتهم وبعث معهم برسالة ودية إلى السلطان الخوارزمي.

وبدلاً من أن ينصرف السلطان إلى تقوية دولته والقضاء على المغول الذين يهددون دولته أو مسالمتهم، انصرف إلى النزاع مع الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وطمع في أن يكون له الهيمنة على بغداد والخلافة العباسية كما كانت لسلاطين السلاجقة، فحرك جيوشه الجرارة تجاه بغداد، لكن الأمطار الغزيرة والعواصف الشديدة تكفلت بالأمر وتصدت له، فمات عدد كبير من جند الخوارزميين وهلكت خيولهم، واضطر السلطان إلى العودة إلى بلاده سنة (614هـ = 1217م)، يجر أذيال الخيبة والفشل وكانت هذه أول صدمة قاتلة قابلته منذ أن ولي الحكم في سنة (596هـ = 1199م).

حادثة قتل التجار

رجع السلطان محمد خوارزم بعد فشل أمله في السيطرة على بغداد إلى بلاد ما وراء النهر، واستقبل هناك وفدًا من تجار المغول المسلمين يحملون رسالة من جنكيزخان إلى السلطان يعرض عليه إبرام معاهدة تجارية بين البلدين فوافق السلطان على مضض، بعد أن شعر أن الرسالة تحمل في طياتها التهديد والوعيد، وكان في السلطان أنفة وكبرياء، فأسّرها في نفسه وإن لم يبدها في الحال.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد قدم جماعة من التجار من رعايا جنكيزخان إلى مدينة "أترار" التابعة للدولة الخوارزمية، فارتاب فيهم "ينال خان" حاكم المدينة دون تثبت، وبعث إلى السلطان الخوارزمي يخبره بالأمر، وبشكوكه فيهم، فبعث إليه يأمره بالقبض عليهم وقتلهم؛ باعتبارهم جواسيس من قبل جنكيزخان.

وكان من الطبيعي أن تسوء العلاقة بين الدولتين بعد الحادث الطائش الذي أقدم عليه السلطان، دون أن يدري أن كل قطرة من دماء هؤلاء التجار كلفت المسلمين سيلاً من الدماء لم ينقطع لفترة طويلة، وأرسل جنكيزخان إلى السلطان يطلب منه تسليم حاكم "أترار" ليحاكمه ما دام قد تصرف من تلقاء نفسه دون أن يرجع إليه، لكن السلطان رفض احتجاج جنكيزخان، ولم يلجأ إلى اللين والتلطف، وتملكته العزة بالإثم فأقدم على قتل الوفد الذي يحمل الرسالة دون بصر بعواقب الأمور، قاطعًا كل خيط لإحلال السلام محل الحرب.

الاستعداد للحرب بين الدولتين

كان قتل الرسل يعني إعلان الحرب بين الدولتين وقطع كل أمل لحسن الجوار وحدوث السلام، فأخذ كل فريق يستعد للآخر، وشرع السلطان الخوارزمي يستطلع أخبار المغول، ويجهز الجيوش، ويبني الأسوار حول المدن، ويفكر في رسم الخطط الحربية، حتى صار لا يتكلم إلا في موضوع الحرب الذي شغل قلبه، وفي الوقت نفسه كان جنكيزخان يستعد للصدام المرتقب بينهما، فجهز جيوشه، وأعد أسلحته، وحشد كل ما يمكن حشده.

وبعد أن أكمل جنكيزخان استعداداته انطلق بجيشه نحو بلاد ما وراء النهر في خريف سنة (616هـ = 1219م) وهو يعتقد أنه سيقابل خصمًا قويًا، يحسب له ألف حساب، وبدلاً من أن يخرج الجيش الخوارزمي لملاقاة المغول استقر رأي قادته على ترك المغول يعبرون نهر سيحون، واصطيادهم بعد ذلك في بلاد ما وراء النهر التي لا يعرفون مسالكها، بحيث تنقطع الإمدادات عنهم.

الإعصار المغولي المدمر

بلغ جنكيزخان وجيشه نهر سيحون على مقربة من مدينة أترار في رجب (616هـ = 1219م)، ولم يشأ أن يهاجم الخوارزميين من جهة واحدة، بل من جهات متعددة تربك استعداداتهم، وتشتت وحدتهم، فقسم جيشه الذي يبلغ ما بين مائة وخمسين ألفًا إلى مائتي ألف جندي إلى أربعة جيوش:

- الأول بقيادة ابنيه جغتاي وأوكتاي ومهمته فتح مدينة أترار.

- والثاني بقيادة ابنه جوجي وهو الابن الأكبر لجنكيز خان، ووجهته البلاد الواقعة على ساحل نهر جيجون.

- أما الثالث فمهمته الاستيلاء على مدينتي بنكات وخسجند على نهر سيحون.

- والجيش الرابع كان تحت قيادة جنكيزخان، ويتألف من معظم الجيش المغولي ويضم القوى الضاربة، وكانت وجهته مدينة بخارى الواقعة في قلب إقليم ما وراء النهر، وكانت مهمة هذا الجيش هي التصدي لقوات الخوارزميين، والحيلولة دون وصولهم إلى المدن المحاصرة على نهر سيحون من ناحية الشرق.

وقد نجحت الجيوش الثلاثة فيما وكل إليها من مهام، فسقطت مدينة أترار، بعد أن صمدت للحصار شهرًا كاملاً، وأبلى حاكمها بلاءً حسنًا في الدفاع حتى فقد معظم رجاله، ونفدت المؤن والأقوات، ولم تكن المدن الأخرى بأسعد حالا من أترار فسقطت هي الأخرى أمام الجيشين الثاني والثالث.

سقوط بخارى وسمرقند

المغول وتدمير بخارى

أما الجيش الرابع الذي ضم معظم قوات المغول، فقد تحرك إلى بخارى تلك الحاضرة العظيمة، وهاجم المدينة بضراوة شديدة، ودارت معارك عنيفة بين الجيش الموكل بالدفاع عن المدينة وقوات المغول لمدة ثلاثة أيام، انهارت بعدها قوى الخوارزميين ولم يكونوا قليلي العدد، بل كانوا عشرين ألف مقاتل، وشعروا باليأس، فقرروا الانسحاب ليلاً، وتمكنوا من اختراق الجيش المغولي الذي يحاصر المدينة، وأجبروه على الارتداد، ولو أنهم صبروا وتابعوا عدوهم المتقهقر لكان خيرًا لهم، ولكنهم آثروا السلامة تاركين المدينة المنكوبة لقدرها المحتوم أمام المغول الهمج، فاجتاح المغول المدينة الآمنة كالجراد المنتشر في (ذي الحجة 616هـ = فبراير 1219م)، وقاتلوا من اعتصم بقلعتها، وطردوا أهلها بعد أن سلبوا ما في المدينة من أموال، ثم أعملوا السيف فيمن بقي بداخل المدينة، وأنهوا عملهم الوحشي بإحراق المدينة فأصبحت قاعًا صفصفًا بعد أن كانت درة متلألئة بين حواضر العالم الإسلامي.

المغول وتدمير سمرقند

وبعد أن أجهز جنكيزخان على بخارى اتجه إلى سمرقند حاضرة إقليم ما وراء النهر، وضرب حولها حصارًا شديدًا، ودار قتال عنيف هلك فيه أكثر الجند الخوارزمي؛ ما أضعف مقاومة أهل سمرقند فطلبوا الأمان نظير تسليم المدينة، فأجابهم المغول، وما إن دخلوا المدينة التعسة حتى أعملوا فيها السيف بعد أن جردوهم من أسلحتهم، وأحرقوا المدينة ومسجدها على من فيه من الناس.

 

نهاية السلطان محمد خوارزم شاه

كانت الهزائم التي لقيها السلطان الخوارزمي قاسية، ولم تكن من قلة في العدد والعتاد، ولكن كانت من سوء قيادة، وفرقة في الصف، وحب للدنيا، وتقاعس عن الجهاد، وخور في العزيمة، ووهن في النفس، فانهار البناء الضخم، وسقطت الدولة المترامية في سنوات قليلة، ولم يعد أمام السلطان سوى التوجه إلى مكان آمن يعيد فيه تنظيم جيشه ويعاود الجهاد حتى يسترد ما فقده، لكنها كانت أحلام بددها إصرار جنكيزخان على تتبع السلطان الفار من بلد إلى آخر، وجند المغول تطارده، حتى انتهى به المطاف إلى همدان في نحو عشرين ألفا من جنوده.

وفي هذه الأثناء تمكن المغول من السيطرة على إقليم خوارزم، أهم ولايات الدولة، وأسروا تركان خان والدة السلطان ومن معها من أبنائه وبناته، فلما قُدّموا إلى جنكيزخان أمر بقتل أبناء السلطان محمد خوارزم وكانوا صغار السن، وزوّج أبناءه وبعض رجاله من بنات السلطان.

وما كادت تصل هذه الأنباء المفجعة إلى السلطان حتى ازداد غمًا على غم، وأصابه الحزن والهم، وكان قد انتهى به الفرار إلى جزيرة في بحر قزوين، يحوطه اليأس والقنوط، فأسلم نفسه للأحزان، ولم يقو على دفعها، وسيطر عليه القلق، وحلت به الأمراض، ولم تكفّ عيناه عن البكاء على المجد الضائع والرئاسة والسلطان، وظل على هذا الحال حتى أسلم الروح في (13 من شوال 617هـ = 9 من ديسمبر 1220م)، وقبل وفاته أوصى لابنه جلال الدين منكبرتي بالسلطة، فحمل راية الجهاد، وواصل رحلة الكفاح.

السلطان جلال الدين منكبرتي

ولي جلال الدين السلطنة في ظروف قاسية تحتاج إلى رجال أقوياء تزيدهم المحن صلابة، وكان جلال الدين من هؤلاء، لكن الظروف التاريخية كانت أقوى منه فاعتلى الحكم والمغول يسيطرون على بلاد ما وراء النهر، وهي تعد أهم أجزاء دولته المتداعية، وامتلكوا إقليم "مازندران" على حصانته ومناعته، وسيطروا على الري وقزوين وتبريز عاصمة أذربيجان وبلاد الكرج.

وبعد أن أجهز جنكيزخان على بلاد ما وراء النهر وبلاد العراق العجمي وأذربيجان، شرع في السيطرة على خراسان وخوارزم حتى تتم له السيطرة على بلاد الدولة الخوارزمية قاطبة، فسيطر المغول سنة (618هـ= 1220م) على مدينة بلخ، ومدينة مرو حاضرة الدولة الخوارزمية، وقتلوا فيها نحو 700 ألف مسلم، ثم ساروا إلى نيسابور فاستولوا عليها، ثم طوس فأخذوها دون عناء ثم بسطوا سيطرتهم على هراة، ثم سيطروا على مدينة خوارزم بعد جهد وعناء.

جلال الدين يحقق أول نصر

بدأ جلال الدين عهده بأن اتخذ من غزنة قاعدة للجهاد الإسلامي ضد المغول، واستطاع أن يكوّن بها جيشا كبيرا بلغ سبعين ألف مقاتل من الفلول الهاربة من المغول، وممن أخذتهم الغيرة على الإسلام وحب الجهاد من المتطوعين، ونجح في أن يؤلف بين قلوبهم ويوحد صفوهم، ثم بدأت طلائع الجيش المغولي تزحف نحو غزنة للاستيلاء عليها والقضاء على السلطان الجديد قبل أن تشتد شوكته، ففاجأها جلال الدين بهجوم خاطف في ربيع الأول (618هـ= 1221م) لم تصمد له ولحقتها هزيمة كبيرة قُتل فيها ألف رجل منهم؛ فكان لذلك أثر عظيم في نفسه استرد به ثقته وثبّت قدمه 

عاقبة الفرقة

وحدث أن انسحب أحد قادة جيش جلال الدين منكبرتي بقسم كبير، حيث تنازعوا فيما بينهم على الغنائم التي حصلوا عليها، متجها إلى سهل يقع غربي نهر السند حين علم بقدوم المغول بقيادة جنكيزخان إلى إقليم غزنة للانتقام من جلال الدين والثأر لهزيمة جيشه على يديه.

وجمع جلال الدين السفن ليعبر بها إلى نهر السند هو وجنوده إلى الهند لعله يجد فيها مأمنه، ولكن بحّارة السفن لاذوا بالفرار حين علموا بقدوم جنكيز خان تاركين السلطان وجنوده على الشاطئ، فاضطروا إلى خوض معركة لم يستعدوا لها ودارت معركة غير متكافئة ثبت فيها جلال الدين، انتهت بهزيمته، وقذف جلال الدين بنفسه في النهر وتبعه ما بقي من رجاله وعبروا النهر إلى الضفة الأخرى، ووقع في الأسر ابن للسلطان وكان طفلا في الثامنة، ولكن جنكيزخان لم يرحم طفولته فقتله بيده، ولما عبر السلطان إلى الجهة الأخرى رأى والدته وأم ولده وحريمه يصحن بأعلى صوتهن: "بالله عليك اقتلنا وخلّصنا من الأسر"، فأمر بهن فأغرقن. وهكذا تمكن جنكيزخان من السيطرة على غزنة.

جلال الدين في الهند

اتجه جلال الدين إلى الهند مع الناجين من رجاله وكانوا أربعة آلاف على هيئة مزرية، وقضى السلطان في الهند ثلاث سنوات (618- 621هـ) جمع فيها قوة كبيرة من الجند الفارين من وجه المغول في الهند، وانضم إليه كثير من القادة الخوارزميين الذين قدموا إليه، وآلاف من المتطوعين الراغبين في الدفاع عن الإسلام، ونجح في مهاجمة بعض الأقاليم الهندية الواقعة في حوض نهر السند وغنم منها غنائم كثيرة وأخضعها لسلطانه.

عودة جلال الدين

بعد رجوع جنكيزخان سنة (621 هـ= 1224م) إلى منغوليا انسحبت جيوشه من أقاليم الدولة الخوارزمية التي كانت تحتلها، فلما عزم السلطان جلال الدين على مغادرة الهند زين له قادته انتزاع السلطة من يد أخيه غياث الدين؛ لأنه الخليفة الشرعي لأبيه فاستجاب لرغبتهم وعبر نهر السند في سنة (622هـ= 1225م)، وأسرع إلى الأقاليم الغربية من الدولة الخوارزمية الواقعة تحت سيطرة أخيه فاستولى على غزنة وكرمان، ثم نجح بالحيلة في هزيمة أخيه واسترداد ما كان تحت يديه من المدن والأقاليم، وتوافد عليه قواد الدولة الخوارزمية الذين كانوا تحت إمرة أخيه وأعلنوا تبعيتهم له ومبايعته سلطانا على الدولة الخوارزمية. وامتد سلطانه على أقاليم خوارزم وغزنة وكرمان وفارس وخراسان ومازندران.

جلال الدين والجهاد ضد المغول

انتهز جلال الدين فرصة انشغال المغول باختيار خليفة لجنكيزخان بعد وفاته سنة (624هـ= 1227م)، وأعلنا لجهاد ضد الغول، واستطاع أن يهزم قوتين مغوليتين قرب أصفهان سنة (625 هـ= 1228م).

لم ينجح جلال الدين في وقف الهجمة المغولية التي بعثها "أوكتاي" خاقان المغول الجديد، وكان قد أرسل جيشا من 30 ألف مقاتل لشن حرب شاملة على جلال الدين، فعبر نهر جيحون ووصل بسرعة إلى الأقاليم الغربية من الدولة الخوارزمية واستولى على الري وهمدان وما بينهما، ووصل إلى أذربيجان سنة (628 هـ= 1231م)، ولم يقدر جلال الدين على لقائهم وفر من أمامهم وهم في إثره يطاردونه.

وعندما رحل جلال الدين إلى تبريز كانوا وراءه، وأرغموه على التقهقر إلى سهل موقان المجاور للساحل الغربي من بحر قزوين قبل أن يتمكن من جمع جيوشه، وحاول أن يستنجد بالخليفة العباسي وأمراء ديار بكر ولكنهم تقاعسوا عن نصرته، وتركوه يلقى نهايته وحيدا دون معاون أو نصير، فلما وصل إلى آمد في أعالي نهر دجلة لحق به المغول وهزموه شر هزيمة وقتلوا كثيرا من جنده واستولوا على ما بيده من سلاح.

نهاية السلطان جلال الدين وسقوط الدولة الخوارزمية

كان السلطان جلال الدين ممن ولوا الأدبار في هذه المعركة، ولجأ إلى جبال كردستان بعد أن يئس المغول من تتبعه للقضاء عليه، وظل هناك هائما على وجهه حتى عثر عليه رجل كردي وأخبره أنه هو السلطان جلال الدين، فأخذه الكردي إلى منزله، وخرج ليدبر له بعض خيوله ليستعين بها السلطان في رجوعه إلى بلاده، وبينما كان الكردي غائبا عن منزله أتى كردي آخر لزيارته فلما دخل المنزل رأى السلطان فعرفه، وكان قد قتل أخًا له في إحدى غزواته، فضربه بحربته التي كانت في يده فسقط السلطان قتيلا، وذلك في (15 شوال 628 هـ= 9 من أكتوبر 1239م).

مزيد من إعلان
announcement

دعوة الرضا من آل محمد ( الدعوة العباسية في المرحلة السرية ) …

announcement

نجح جنكيز خان في إقامة إمبراطورية كبيرة ضمن أقاليم الصين الشمالية، واستولت على العاصمة…

announcement

في البداية يدرس المقرر قيام الدولة العباسية وظروف نشأتها والعوامل التي ساعدت على…