تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

د.عبدالرحمن بن مقبل بن مطر الأسلمي الشمري

Assistant Professor

عضو هيئة تدريس

التعليم
كلية التربية - قسم الدراسات القرآنية - تخصص قراءات
مدونة

أثر المدرسة التركية في نشر القراءات العشر الكبرى

القراءات العشر الكبرى أصلها كتاب النشر لابن الجزري, ومتن طيبة النشر في القراءات العشر, والتي نظم فيها الإمام ابن الجزري ما جمعه في كتابه العظيم: (النشر في القراءات العشر)، وهو أوسع الكتب التي جمعت طرق الرواية الثابتة للقرآن الكريم بقراءاته العشر، وقد ضمنه صاحبه أكثر من ألف طريق، ولذا تعارف علماء القراءات على تسمية القراءات العشر من طريق الطيبة بالعشر الكبرى ([1]).
     والقراءات العشر الكبرى في فترة من الفترات بعد عهد ابن الجزري انحسرت انحساراً شديداً, حيث كان الناس لا يعرفون إلا القراءات العشر الصغرى, أويقرؤون بأحد الروايات المفردة أو غيرها من الكتب المسندة عندهم, فجاء ابن الجزري رحمه الله فصنف كتابه العظيم النشر في القراءات العشر.
      وقد مر هذا الكتاب بعدة مراحل من حيث انتشاره في أقطار العالم الإسلامي, وتلقي الطلاب له, واعتماده في التدريس عند المشايخ القراء, وحسب بحثي الدقيق في المراحل التي مر بها هذا السِفْر العظيم  تبين لي أنه مر بثلاث مراحل:
-المرحلة الأولى:
   هي مرحلة تأليفها وجمعها من بطون الكتب, والقراءة على المشايخ في جميع الأقطار, وعرضها على عدد من المقرئين وذلك بقيام ابن الجزري رحمه الله باختيارها من كتب عدة مسندة إلى مؤلفيها, وبذل فيها كل حياته, ومن ثم جمعها لنا في كتابه العظيم كتاب النشر قال في مقدمة الكتاب: (وَجَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَسِفْرٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لَمْ أَدَعْ عَنْ هَؤُلَاءِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ حَرْفًا إِلَّا ذَكَرْتُهُ، وَلَا خُلْفًا إِلَّا أَثْبَتُّهُ، وَلَا إِشْكَالًا إِلَّا بَيَّنْتُهُ وَأَوْضَحْتُهُ، وَلَا بَعِيدًا إِلَّا قَرَّبْتُهُ، وَلَا مُفَرَّقًا إِلَّا جَمَعْتُهُ وَرَتَّبْتُهُ، مُنَبِّهًا عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُمْ وَشَذَّ وَمَا انْفَرَدَ بِهِ مُنْفَرِدٌ وَفَذٌّ، مُلْتَزِمًا لِلتَّحْرِيرِ وَالتَّصْحِيحِ وَالتَّضْعِيفِ وَالتَّرْجِيحِ مُعْتَبِرًا لِلْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، رَافِعًا إِبْهَامَ التَّرْكِيبِ بِالْعَزْوِ الْمُحَقَّقِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَمَعَ طُرُقًا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَرَوَى الْوَارِدَ وَالصَّادِرَ بِالْغَرْبِ، وَانْفَرَدبِالْإِتْقَانِ وَالتَّحْرِيرِ، وَاشْتَمَلَ جُزْءٌ مِنْهُ عَلَى كُلِّ مَا فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ; لِأَنَّ الَّذِي فِيهِمَا عَنِ السَّبْعَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا، وَأَنْتَ تَرَى كِتَابَنَا هَذَا حَوَى ثَمَانِينَ طَرِيقًا تَحْقِيقًا، غَيْرَ مَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدَ لَا تُحْصَى وَلَا تُحْصَرُ، وَفَرَائِدَ دُخِرَتْ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ فِي غَيْرِهِ تُذْكَرُ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَشْرُ الْعَشْرِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ قَدْ مَاتَ قِيلَ لَهُ حَيٌّ بِالنَّشْرِ.      وَإِنِّي لَأَرْجُو عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمَ الْأَجْرِ وَجَزِيلَ الثَّوَابِ يَوْمَ الْحَشْرِ ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ خَالِصِ الْأَعْمَالِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ حَظَّ تَعَبِي وَنَصَبِي فِيهِ أَنْ يُقَالَ، وَأَنْ يَعْصِمَنِي فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مِنْ زَيْغِ الزَّلَلِ وَخَطَأِ الْخَطَلِ) ([2]).
    لقد تتلمذ على الإمام ابن الجزري بعد ذلك العدد الغفير من الطلاب في الشام ومصر والعراق واليمن, ومن جميع بلاد العالم فمنهم من قرأ بمضمن كتاب واحد, ومنهم من قرأ السبع, ومنهم من قرأ العشر, وكان من أشهر طلابه([3]):
    أبوبكر أحمد الذي شارح طيبة النشر، والشيخ محمود بن الحسين بن سليمان الشيرازي، والشيخ أحمد بن محمود بن أحمد الحجازي الضرير، الشيخ عثمان بن عمر بن أبي بكر بن علي الناشري الزبيدي([4]).
    والإمام ابن الجزري رحمه الله قد حييت القراءات العشر الكبرى في عهده, فهو الذي اختارها, وأقرأ بها الجمع الغفير من الطلاب فتكون هذه هي المرحلة الأولى وهي مرحلة نشأتها.
-المرحلة الثانية:
   وهذه المرحلة هي من أهم المراحل التي سوف نتحدث عنها, وهي مرحلة إحياء كتاب النشر, والقراءة بمضمنها, بعد أن انحسرت, ولم يبق من يقرأ بها إلا النزر القليل بخلاف العشر الصغرى, والتي ذاع صيتها في الأفاق, وتلقها العلماء في الحلق والمساجد والمداس.
   وهذه المرحلة تعد من أبرز المراحل التي مرت بها طيبة النشر, وهي مرحلة إحيائها على يد المدرسة التركية, ويمكن تحديد وقت نشأتها بالقرن الثاني, وذلك بانتقال العلامة أحمد المسيري المصري إلى تلك الديار([5]), وأصبح إماماً لجامع أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه, وتفرغ للإقراء بمضمن الشاطبية والدرة والنشر, وكان قد قرأ على العلامة ناصر الدين الطبلاوي فهو بمنزلة العلامة المحقق شحاذة اليمني.
    وبعد ذلك حلَّ في هذه البلاد -بلاد تركيا- العلامة المحقق على المنصوري عام 1088هـ, وأقرأ بها النشر وحرر الأوجه, وألف في التحريرات, ألف نظمه الكبير في تحير طيبة النشر واسماه: (حل مجملات الطيبة),  ثم ألف كتابه الجامع لتحريرات الطيبه واسماه: (تحرير الطرق والروايات) حتى أصبحت مدرسة عظيمة في تدريس كتاب النشر العظيم يرجع إليه الطلاب والمحررون في هذا الفن, وفي هذه الفترة تتابع الأتراك من طلبة العلم إلى حفظ الطيبة, والقراءة بمضمن النشر حتى شاع فضلها, وذاع صيتها بين طلبة العلم؛ فتكونت عدة مدارس في تدريس الطيبة أشار إليها  العلامة عبد الله بن صالح الإسلامبولي بأنها ثلاث طرق([6]):
 الأولى:ما أخذ به العلامة المحقق يوسف أفندي زاده.
 الثانية:ما أخذ به العلامة المحقق المنصوري.
الثالثة:ما أخذ به العلامة المحقق الأزميريُّ.
   وفي بلاد الخلافة العثمانية نشأت  المدارس الإقرائية للنشر وطيبته, فكانت فترة ذهبية في إحياء هذا الفن الجليل.
المرحلة الثالثة:
   وهي المرحلة المتأخرة, والتي امتدت إلى عصرنا الحاضر, فبعد أن اجتهد الأتراك في نشر  كتاب النشر وطيبته, وألفوا فيها المؤلفات, ونظموا المنظومات بدأ يخفت هذا الفن في تلك البلاد بعد أن سطروا فيه أروع التحريرات للنشر وأصوله, كما صنع المنصوري في تحريراته وغيره من علماء تلك البلاد العظيمة.
     انتقلت حركة الإقراء للطيبة ونشرها إلى مصر, فتصدى لها علماء أرض الكنانة, فتصدروا للإقراء, وألفوا المؤلفات, واستدركوا على الأتراك في كثير من مسائل تحريرات النشر.
   فنشأت مدرسة المحررون على ظاهر النظم وهم المنصوري وأتباعه من علماء تركيا, ومدرسة المتولي من علماء مصر وهم المحررون بالرجوع إلى أصول النشر.
    فمن مجددي هذه المرحلة العلامة الإمام محمد المتولي تـ 1313هـ.حيث ألف كتابه (الفور العظيم) الأول والثاني, و(الروض النضير), وإن كان قد سبقه بذلك  صاحب كتاب (هبة المنان في تحرير أوجه القرآن) للشيخ محمد بن محمد بن خليل المعروف بالطباخ، كان حياً سنة 1205هـ، وقد شرحه العلامة أحمـد بن شرف الأبياري كان حياً سنة 1250هـ  في كتـاب أسـماه:  (غيث الرحمن شرح هبة المنان), ومن علماء مصر الذين أحيو هذا العلم صاحب كتاب (فتح الكريم الرحمن في تحرير أوجه القرآن) الشيخ مصطفى بن علي الميهي كان حياً سنة 1229ه,ـ ومن ثم تتابع علماء مصر في إقراء طيبة النشر فجاء العلامة للشيخ عثمان راضي السنطاوي كان حياً سنة 1320هـ فألف كتاب (نظم النفائس المطربة في تحرير الطيبة), ومـن ثم جاء  الشيخ  العلامة محمد بن عبدالرحمن الخليجي تـ 1389ه فنظم وشرح (مقرب التحرير للنشر والتحبير).
   وتتابع علماء مصر والمتبحرين في الطيبة ونشرها في خدمة القراءات العشر, كأمثال الأجهوري, والعبيدي, والنبتيتي, والعقباوي, والسمرقندي, والبالوي, وأتباع الإمام المتولي الشيخ: محمد الضباع, والشيخ الزيات, والشيخ محمد جابر المصري, والعلامة عامر سيد عثمان, والشيخ محمد شحاتة السمنودي وغيرهم([7]).

 

([1]) النشر  (1/190-191).
 

([2])النشر (1/56-57).
 

([3])انظر: غاية النهاية(1/99).
 

([4])انظر: طبقات السبكي(5/13)، بغية الوعاة(1/355-390).
 

([5])انظر: مقدّمة كتابه عمدة الخلان.
 

([6])انظر: الجمع بين وجوه القراءات
 

([7])انظر: مقدمة تحقيق متن الطيبة لمحمد تميم الزعْبي (ص: 17 – 19)، والروض النضير بتحقيق: خالد أبوالجود (ص: 62).