تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

الدكتور أحمد بن كساب بن سالم الشايع | Ahmad K. Alshayea (PhD)

Associate Professor

أستاذ علم النفس المرضي المشارك Associate Professor of Abnormal Psychology

التعليم
مكتب رقم أأ 185
مدونة

عن الجرافولوجيا...(قراءة الخط!)... علم أم علمٌ زائف؟

عن الجرافولوجيا... عِلمْ أم عِلمٌ زائف؟
الجرافولوجيا Graphology هي ممارسة تزعم القدرة على الإستدلال على سمات محددة من الشخصية (القيم، الطموح، الخجل...الخ)، أو صورة إجمالية كلية منها؛ بالإعتماد على خصائص خط اليد عند الشخص، ومن تلك الخصائص: دقة الكتابة، صعود الكتابة، ثقل أو عمق الكتابة، مثلاً لاحصراً. وشاع الإهتمام بهذه الممارسة خلال النصف الأول من القرن الماضي، لعدة أسباب منها جاذبيتها للعامة والمختصين، وكذا ما تعد به من إمكانات.
وأستتبع هذا الإهتمام تفحص علمي صارم لمدى دقة نتائج هذا الأسلوب. ولم تكن النتائج مشجعة إجمالاً. ففيما يتعلق بالارتباط بين خصائص محددة لخط اليد وبين سمات شخصية محددة أيضاً، تظافرت عدة دراسات مستقلة على عدم وجود مثل هذه الارتباطات. أي أنه لم يصح عندهم الزعم بأن وجود خاصية محددة في الخط كالضيق أو الاتساع مثلاً، تشي باتسام الشخص بخصلة معينة في شخصيته. إلا ان أتجاهاً آخر في الدراسات أظهر بعض الدعم لدقة الإستدلالات المبنية على الجرافولوجيا. وذلك حينما نبتعد عن الإهتمام بسمات شخصية محددة، ونعتمد على بناء صورة كلية عن الشخصية. ومع ذلك، فهو دعمٌ ضعيف. أي أنه ذي فائدة عملية ضئيلة حتى لو كان مُعتبر علمياً، وهذه موقف علمي معروف في تفسير النتائج الإحصائية، فقد تكون القيمة دالة إحصائياً (أعلى من إحتمال ان تكون كنتيجة للصدفة وحسب)، ولكنها لا ترقى لأن تكون صالحة للإستخدام العملي! وبالرغم من أن هذه الخلاصة مستمدة من دراسات أجريت في الخمسينيات من القرن الماضي، إلا ان الصورة لا يبدو أنها قد تغيرت كثيراً عن ذلك كما في نتيجة تحليل جمعي Meta-Analysis نشر في 1992 لمئتين دراسة علمية حول الجرافولوجيا، وخرج بنتيجة إجمالية بفشل هذا الأسلوب في التنبؤ بالشخصية. 
كما ان هناك العديد من المشاكل النظرية التي تحيط بهذا الأسلوب، وتبعده عن الإتسام بالعلمية في ممارساته. ومن ذلك غياب نظرية متماسكة تحدد خصائص الخط التي ينبغي أن تؤخذ في الحسبان وترتب مدى أهميتها، وتلك التي ينبغي تجاهلها؛ وتشرح الأساس النظري بين هذه الخصائص والسمات الشخصية التي تشير إليها؛ وتوفر – وهذا الأهم – طرقاً يمكن انتهاجها لإخضاع هذه النظرية وافتراضاتها للتحقق العلمي الرصين. 
يقودنا هذا الحديث لضرورة التفريق بين العلم Science  والعلم الزائف Pseudoscience. فالأخير يتلبس بلبوس الأول فيُشكل على الناس التمييز بينهما. ولنتامل طريقة العمل في الجرافولوجيا لنقف على أحد مظاهر الفرق بين الأمرين. في الجرافولوجيا يقوم الممارس بجمع ملحوظات هي هنا عينات من الخط، ومن ثم يبني على ذلك مجموعة من الفروض (الإحتمالات عن الشخصية)، وللتحقق من صحة هذه الفروض يستخدم الملحوظات ذاتها التي بنى عليها فروضه من الأساس. هنا خطأ منطقي ومنهجي. فالتحقق من الفرض لا يصح أن يستخدم نفس المادة التي أنتجته. بل ينبغي أن ينبني على مصادر مستقلة عن ذلك. وإلا أصبحت العملية محض عبث، يفضي بنا إلى ممارسات تندرج ضمن مايسمى بالعلم الزائف!
وهنا يجدر السؤال عن سر بقاء هذه الممارسات حتى الآن بالرغم من وضوح ضعفها؟ فالواقع أنه لايزال هناك من يزعم تحديد شخصية الناس من شكل تواقيعهم أو خطوطهم، ولاتزال بعض الشركات تلجأ أليه في إختيار موظفيها، كما قد تلجأ أليه الشرطة أحياناً! وأحد التفسيرات المحتملة لذلك هو شغف البعض في معرفة ذواتهم من جهة، وجهلهم بالتقييم العلمي البسيط لما يقال لهم، إضافةً إلى أن ما يقال لهم من تفسيرات تميل في الغالب لأن تكون مجرد "قوالب عامة" تناسب كل شخص، الأمر الذي يجعل الشخص ميالاً لتصديقها، وهو ما يسمى بأثر بارنيومeffect  Barnum (أو أثر فورر Forer effect). أما في المجال الجنائي، فغالباً ما تكون الجرافولوجيا هي آخر ما يلجأ أليه المحققون في كشف غموض الجرائم، بعد ان يكونوا قد استنفذوا كل ما لديهم من طرق؛ وذلك حتى لا يبدوا كعاجزين، ويعطوا الإنطباع بأنهم لايزالون يعملون على الأمر ولم تنفذ منهم السبل بعد! كما ينبغي التفريق بين الجرافولوجيا وبين تحليل خط اليد الجنائي (forensic handwriting analysis). فالأخير ممارسة تختص بالتحقق من صحة التوقيع وأنه غير مزور، وصحة انتساب الخط إلى الشخص بالمقارنه مع عينات أخرى من خط يده. ومع هذا فقد رفضت عدد من المؤسسات القضائية الأمريكية التعويل عليها كدليل جنائي.   
أخيراً، فليس من الخطأ أو المجازفة القول بان الجرافولوجيا ليست ممارسة علمية مبنية على الأدلة. بل أن الأصوب أنها كذلك. وعلى من يُقبل على مثل هذه الممارسات أن يعلم بانها محض وهم. وأنه ليس من الصواب القول بأن هذه الممارسات "إن لم تنفع فلن تضر"، فالصواب أنها مُضرة، وضررها يتمثل جزئياً في الفهم الخاطئ الذي تجعلنا نتبناه عن ذواتنا، وتباعات ذلك واضحة. وليس أفضل للحد من هذه الممارسات وضررها من تنمية ثقافة التفكير العلمي لدى الناس. فهذا يوفر لهم ليس فقط مناعةً ضد التأثر بها، ولكن أيضاً حداً من وجود العقلية الهشة التي توفر البيئة الخصبة لكافة أشكال الوهم.
ختاماً، فهذا تعليق مني كتبته على عجل وبامتنان لصحيفتنا، صحيفة رسالة الجامعة. ولا يهدف لتقديم إستعراض علمي رصين لهذا الموضوع. إنما هو إشارة عجلى لما اعتقدت بأنه ينبغي أن يعرف عنه. والله من وراء القصد.
 
 
 
د/ أحمد كساب الشايع
قسم علم النفس – جامعة الملك سعود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشرت هذه المادة في العدد رقم 1184 من صحيفة رسالة الجامعة (8/2/1436)، تحت عنوان: "ماذا تعرف عن الجرافولوجي؟".