تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

أ.د. أزهري مصطفى صادق علي

Professor

استاذ

كلية السياحة والآثار
126 أب
مدونة

السودان ارض الحضارات (3) عندما تحولت السافنا إلى صحراء

السودان ارض الحضارات (3) عندما تحولت السافنا إلى صحراء
نشر في الانتباهة . طبعة الخليج . 1 ديسمبر 2012
د. أزهري مصطفى صادق
 
تتراوح معدلات الأمطار السنوية في أقصى شمال السودان ما يقارب الصفر ، حيث تتساقط الأمطار في تلك المناطق مرة كل خمس أو ست سنوات، إلى 500 مليمتر إلى 1000 مليمتر في مناطق الوسط والجنوب الغربي. ومع وقوعه في المنطقة المدارية ، تمتعت معظم أجزاء السودان الشمالية والوسطى بمناخ صحراوي أو شبه صحراوي جاف ، بينما لا تزال أغلب تخومه الجنوبية والجنوبية الغربية في إقليم مناخ السافنا الفقيرة والغنية. لم يكن هذا هو الحال قبل ستة آلاف عام ، عندما كانت كل مساحة السودان تتمتع بمناخ السافنا الغنية وأرضاً تغطيها الغابات والمراعي وتجري فيها أنهار ووديان وخيران وروافد مائية عديدة ، وتعيش فيها ، حتى في أقسى مناطقه قحطاً اليوم ، شتى أنواع الحيوانات البرية كالأفيال والزراف والغزلان وحمر الوحش وغيرها. قد تبدو الكلمات الأخيرة غير مألوفة للقارئ الكريم ، وربما يشيح ببصره عنها وينتقل الى موضوع آخر يبدو له أكثر جدية مما سأتناوله هنا. وللوهلة الأولى ، قد يبدو حديثي  من قبيل الخيال، لكنى على يقين أنه متى ما تمعن في معاني ما سأطرحه ، وأدرك ما أعنيه ، ولو ضمنياً ، سينقل حينئذ من موقف الشك فيه الى منزلة الدهشة والاعجاب بل والتعجب كذلك.
انجزت المعلومات التي ذكرتها حول مناخ السودان في الماضي ، من خلال تحليل آلاف البينات الأحيائية والآثارية والجغرافية على مدى المائة سنة الماضية من قبل العديد من علماء الآثار والنبات والحيوان وغيرهم. شملت كذلك العديد من الرسوم الصخرية ذات صلة مباشرة مع مخلفات سكنيه تعود لتلك الفترة المبكرة من ما قبل التاريخ ، وهناك الآلاف من الرسومات المنحوتة في الصخور في الصحراء وعلى طول نهر النيل تشمل حيوانات بريه كالزراف والغزال وحمار الوحش والفيل وفرس النهر والخرتيت. وجود مثل هذه الحيوانات يتطلب معدلاً محدداً من الأمطار ، ومراعٍ ، وظروف مناخية معينة تفتقدها اليوم اغلب المناطق التي وجدت فيها هذه الرسوم. حتى في منطقة الخرطوم تم الكشف على العديد من عظام الحيوانات البرية كالأفيال والأسود وأفراس النهر والخرتيت وغيرها ، أرخت الى الفترة الممتدة من 7000 الى 3000 ق.م مع تأكيد معدل امطار يزيد عن 750 ملم سنوياً ، مما يعنى وقوع منطقة الخرطوم في منطقة السافنا الغنية في ذلك الوقت.
مع وجود هذا المناخ الرطب ، سكن الناس في تلك الفترة في أغلب مناطق الصحراء اليوم ، خاصة في الوديان التي كانت تعتبر روافد في الماضي والتي شكلت في الماضي ممرات طبيعية خلال المراحل المناخية الملائمة ، واستقرت على طول ضفافها جماعات من الصيادين والرعاة استخدمت الفخار ، واستغلت الموارد المائية الدائمة. وخلال السنوات القليلة الماضية اكتشفت العديد من عظام الحيوانات المتحجرة والأسماك في مناطق صحراوية قاحلة من بينها منطقة القعب الى الغرب من دنقلا حيث كشفت أعمال قسم الآثار جامعة الخرطوم بقيادة الدكتور يحي فضل طه عن واحدة من أهم الدلائل الآثارية والأحيائية في تلك المنطقة وشملت العديد من المخلفات العظمية والغابات المتحجرة والهياكل الكاملة لحيوانات برمائية كالتمساح وفرس النهر، بالإضافة الى الأسماك ، مما يعد انجازاً وطنياً خالصاً يضاف الى الانجازات الوطنية في هذا المجال.
مع مرور الوقت ، وتدريجياً ، بدأت هذه الظروف المناخية الرطبة في التغير شيئاً فشيئاً بدءاً من الألفية الثالثة قبل الميلاد على الأقل ، وتغير الحال في نهاية الأمر الى أن أصبحت اغلب مناطق السودان جزءاً من اكبر الصحاري في العالم.