تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

الأستاذ. الدكتور/ عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد حجر

Professor

مدير مركز الملك عبدالله التخصصي للأذن

كلية الطب
مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي
مدونة

السمع أم البصر

السمع أم البصر

من اللطيف أن طلبة الطب في كليتنا يدرسون دورة العيون والأنف والأذن والحنجرة في نفس الوقت وهذا يدل على مدى التلاحم والألفة بين القسمين مع بعض التنافس الشريف الذي نسعى من ورائه إلى الرقي سوياً بقسمينا بما يخدم وطننا الغالي. يمر علينا طلبة الطب ولا يكادون يميزون بين قسمينا وكأننا قسم واحد برئيســين. لكن الدعابة بيننا لا تفســد للود قضية, ولعل من الدعابة أن نذكر بعض ما نتفوق به على تخصص العيون, مع أن هذا التفوق لا يعد ولا يحصى, والميدان يا حميدان.   

دائماً ما يقال السمع والبصر كما يقال أبو بكر وعمر والشمس والقمر والأم والأب هذا الاقتران نابع عن قربهما وتداخل عملهما وكون كل منهما مكمل للآخر كما يكمل القمر نور الشمس ويكمل الأب دور الأم وتكمل الأم دور الأب وليس في هذا استنقاص لأحدهما, مع بعض التفضيل  لمن يذكر أولاً. هذا التكامل والتجانس في العمل بين الأذن والعين يجعل من العمل المشترك نجاحاً لكل الجسد والذي يشمل كلا العضوين الأذن والعين. لكن دعونا نتمعن في الأذن على حده ونقارنها بالعين حيث أن الكثير من الناس يجهل هذا العضو وأهميته في جسمنا ويتوقع أن العين أهم من الأذن, ويا للهول! هؤلاء الناس أيضاً يتوقعون أن الماء أهم من الأكسجين ولكي نعرف كم نحن مغبونون في الأذن مثلما نحن مغبونون في الأكسجين فدعونا ننظر إلى حالنا من غيرهما. دعونا نحرم أنفسنا من الماء والأكسجين ونرى أيهما نحن في أمس الحاجة إليه. في الحقيقة بمقدورنا الصيام عن الماء لعدة ساعات وقد تصل إلى أيام ولكن لن نتمكن من العيش لو انقطعنا عن الأكسجين أكثر من بضع دقائق, وقس على ذلك السمع وهو أكسجين الحياة بالبصر وهو الماء الزلال. لسنا هنا ننكر العين وأهميتها لأنه من الجنون أن نقول أن الماء غير مفيد وقد قال تعالى عنه ( وجعلنا من الماء كل شي حي) فكذلك البصر الذي قال عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه " إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة  ".

كانت لي قصة ظريفة مع أحد طلبتي فبينما كنت أتحدث عن أهمية السمع والتي تتضح عند فقده وعندما نقارنه بفقد البصر -مع أهميته- يتضح لنا أن السمع أكثر تأثيراً والدليل على هذا أن الذي لا يسمع يفقد مع سمعه التحدث الجيد وقد يصل إلى البكم إذا كان الصمم منذ الولادة كما يفقد القدرة على  التحصيل العلمي  الجيد لهذا سمعنا بمن هو أعمى وقد وصل إلى أرقى درجات العلم والمعرفة في جميع ميادين الحياة و الأمثلة على ذلك كثيرة ومنها مشايخنا, عبدالعزيز بن باز رحمه الله وآل الشيخ مفتي السعودية ولم نسمع بمن كان أصم وقد وصل إلى درجة عالية من المعرفة. إلا أن أحد الطلبة قاطعني وقال لي الموسيقار الشهير بتهوفن كان أصم وهو من أشهر الموسيقيين,  وبسبب ثقافتي الضحلة في هذا المجال رجعت للمراجع والعهدة على الراوي أن هذا الرجل يدعى لودفيغ فان بيتهوفن 1770 -1827 ولد معافى وكان أبوه يعمل مغنيا بكنيسة البلدة فتشرب الموسيقى مذ كان في المهد ومن ثم تتلمذ على يد موزار الذي قال عنه في صغره "انتبهوا إليه جيدا ،فهو سيجعل الدنيا كلها تتحدث عنه ", في الثلاثين من عمره أصيب بالصمم الذي أخذ بالتزايد حتى أصيب بالوقر -الصمم الكلي- في آخر حياته وقد أخفى المرض عن جميع الناس إلا أن التاريخ أبقى لنا شيئاً من خط يده وهي رسالة لصديقه الدكتور فيجلريبون قال فيها "إن أذني تصفر بشكل دائم ليل نهار، وإن الله وحده ليعلم ماذا سيصير إليه أمري". وأضاف: "بالنسبة لي، لا يوجد ترفيه ولا تسلية في المجتمعات الإنسانية، ولا أستطيع أن أستمتع بحوار شيق أو أن أتبادل أفكاري وأحاسيسي مع الآخرين....... لا مفر من أن أعيش في منفى....... وبعد قليل يتعين علي أن أضع نهاية لحياتي) وكانت آخر مقطوعة له هي (يا رب لما أشقيتني ولم اشقي احد من عبادك), تمنيت لو كنت أعرف هذه القصة لأقف بالمرصاد لهذا الطالب و أعاقبه لعدم تصديقه ما أقول ويقول كل أستاذ في الجامعة ويكون عبرة لمن لا يعتبر ويؤمن أن كلمات عضو هيئة التدريس من المسلمات والقوانين الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير, في الحقيقة أتقدم بالشكر الجزيل وأنا مدين له بتلاقح الأفكار و صحيح أن "أفضل مثقف للمعلم طلبته".

دعونا نتفكر في السمع والبصر مرة أخرى ونستشهد بالقرآن فهو مرجعنا الأول. القرآن هو في مجمله معجزة سمعية, تحدى الله به كل فصحاء العرب أن يأتوا بمثله. كما أن السمع ذكر في القرآن 185 مرة بينما ذكر البصر بمعنى الرؤية 88 مرة فقط. أضف إلى ذلك أن لفظي السمع و البصر ذكرا معاً 38 مرةً - يقدم السمع في جلها على البصر- ومن ذلك قوله تعالى ( و هو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار و الأفئدة )المؤمنون : 78 وقال تعالى ( إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً) الإسراء :36 , ويرى بعض المفسرين أن هذا التقديم يأتي من أهمية السمع على البصر, ليس هذا فحسب بل ذكر الصمم مع العمى في 8 آيات يقدم في اغلبها الصمم, ومنها قوله تعالى (صم بكم عمي فهم لا يرجعون ).

 

الآن دعونا نتعرف على السمع طبياً ونقارنه بالبصر لتتضح الرؤية:

1.    أول حاسة

السمع يعد أول حاسة تكتمل في النمو و تبدأ بالعمل في جسم الإنسان وذلك قبل الولادة, فالجنين يسمع في الشهر الخامس من الحمل, ولكن لا يبصر جيداً إلا بعد الولادة بعدة أسابيع.

2.    آخر حاسة

         السمع يبقى يعمل حتى بعد خروج الروح قال صلى الله عليه وسلم (إذا وضع الميت في قبره وانصرف الناس عنه إنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرون).

3.    أقوى حاسة

السمع من أقوى الحواس في جسم الإنسان فعلى سبيل المثال لا الحصر يفقد البصر قبل السمع في النوم والتخدير والإغماء ويرجع السمع أولاً عند الاستيقاظ منها جميعاً. كما أن بمقدور حاسة السمع اختراق الجدران والحواجز وعدم الحاجة للضوء. بل أكثر من ذلك كله بمقدورنا أن نسمع عن طريق عظام الجمجمة ومن هنا نشأت فكرة السماعات العظمية (الباهة), فسبحان الله.

4.    أوسع إحساسا

بمقدور حاسة السمع التقاط الصوت بأي زاوية كان مصدره بالنسبة للأذن و من كل اتجاه بينما البصر محدود الأبعاد فنحن لا نبصر إلا في مجال محدود بدرجة 180 أفقياً و 145 درجة عمودياً بالنسبة للعين -إذا لم نكن جاحظي العينين-.

5.    أكثر حماية

من البديهي جداً أن تكون شدة الحماية تتناسب مع الأهمية. فالأذن محمية بقناة متعرجة غائرة في الجمجمة بعيدة كل البعد عن الإصابات كما أن القوقعة أو الأذن الداخلية تحاط بأقوى عظم في جسم الإنسان يعرف بالعظم الصخري (Petrous Bone). كما أن قشرة السمع في المخ توجد في كلا الجهتين, وهي بعيدة كل البعد عن بعضهما البعض, فلو أصيبت جهة بورم أو جلطة أو نزيف تكون الجهة الأخرى بعيدة عنها وقادرة على العمل وتعويض النقص -فسبحان الخالق-. أما البصر فحمايته الخارجية والداخلية لا تقارن بالسمع, فالعينان بارزتين لتتمكنا من الإبصار وقشرة المخ لكلا الجهتين مجتمعة في مؤخرة المخ.

6.    أكثر تأثيراً

كما ذكرنا أن أهمية الشي تتضح عند فقده, ففاقد السمع يعاني الكثير والكثير, فعلى سبيل المثال لا الحصر ضعف السمع يؤثر بشكل كبير جداً على التواصل مع الغير في المنزل والشارع والعمل والمدرسة وهذا التواصل هو ما ينبني عليه أواصر المحبة, ولو اقتربنا أكثر من المشكلة لوجدنا عدم مقدرة الأصم على التعايش مع المجتمع بشكل جيد وحرصه على العيش مع أقرانه الصم الذين يتواصلون مع بعضهم البعض بلغة الإشارة, فلا نستغرب حرص الأصم على الزواج من امرأة تشاركه التواصل الجيد في حياته, كما لا نستغرب حب الأصم لمجتمع الصم أكثر من حبه لأسرته التي لا تتقن لغة الإشارة, ولهذا تكونت في جميع الدول تجمعات خاصة بالصم ولم نسمع عن تجمعات خاصة بفاقدي البصر الذين لا يجدون حرجاً في التواصل مع من حولهم على جميع الأصعدة.

7.    أكثر حرجاً ومعاناة

يعاني مريض ضعف السمع, البسيط والمتوسط منه, من صعوبة في فهم بعض الكلمات فتلتبس عليه الكلمات المتشابهة مثل سيارة وطيارة ونحلة ونخلة مما يجعله عرضه للاستهزاء من الآخرين و دعابة بين أقرانه. أما الحريص من المرضى إما أن يطلب من المتحدث رفع صوته مما يتعب المتحدث ويتعب المستمع حيث أن ارتفاع الصوت يزيد من حدته فيصبح قريباً من صفة العتاب أو التهديد. الخيار الثاني أن يطلب من المتحدث إعادة الحديث فيشك المتحدث في مدى تركيز المستمع واهتمامه بالموضوع. أما الخيار الثالث فهو أن يفوت بعض الكلمات تلافياً للحرج فيقع في حرج أكبر بعدم التفاعل الجيد مع المتحدث. الخيار الرابع الذي قد يكون نقمة وليس نعمه هو قراءة الشفاه, حيث يطور ضعيف السمع ملكة التعرف على الكلام عن طريق متابعته لحركة شفاه المتحدث وهذا يجعل العديد من الناس تقول عنه "هذا يسمع إلي يبغى والي ما يبغى ما يسمعه" فيفقد ثقة الناس به وهم لا يعلمون عن هذه الملكة. هذه الخيارات لدى ضعيف السمع نراها بوضوح عند كبار السن, ليس هذا فحسب بل غالباً ما يرافق ضعف السمع ظاهرة أشــد صعوبة على المريض تعرف بتجمع الصوت حيث يتجمع الصوت فجأة عند ارتفاعه فيسبب ضجيج لا يتقبله المريض ومثال ذلك كبير السن أيضاً الذي لا يسمع جيداً ويشتكي من إزعاج الأطفال له. كما أن أبسط الحلول في مثل هذه الحالات -وهو لبس السماعة- غير مقبول عند العديد من المرضى. كل هذه الأمور لا يقع فيها مرضى الإعاقة البصرية كما أنهم لا يتحرجون من لبس النظارة.

 

8.    الأكثر انتشاراً

تعد الإعاقة السمعيات من أكثر الإعاقات انتشاراً على مستوى العالم فمن كل عشرة هنالك إنسان لديه مشكلة في السمع, ومن كل ثلاثة فوق الستين هنالك إنسان لديه مشكلة في السمع, وفي مجتمعنا السعودي على وجه الخصوص النسبة مضاعفة فمن كل مائة سعودي تحت سن الثامنة عشرة هنالك خمسة عشر سعودي لديه مشكلة في السمع. هذا ناتج عن العديد من الأمراض الوراثية -التي لم تكتشف بعد- والناتجة عن زواج الأقارب, ناهيك عن التقصير في اكتشاف هذه الحالات في مجتمعنا بسبب قلة التثقيف الصحي ووعي المجتمع بهذه الإعاقة وتأثيرها على الفرد والمجتمع. أضف إلى ذلك عدم وجود كشف مبكر لهذه الحالات لدينا والذي أصبح طبياً من المسلمات مثله مثل التطعيم, وكلي أمل أن يطول بي العمر وأرى شهادة التطعيم تشمل خانة لقياس السمع, وليس ذلك على الله بعزيز. لا يفوتني اذكر أن الاعتراف بالحق فضيلة, فنحن الأطباء وأخصائيو السمعيات والتخاطب السبب الحقيقي في هذا التقصير, وليس هذا جلداً للذات, فقد قصرنا في إبراز هذه الحقائق للمسئولين وللمجتمع و يجب أن لا يلقي أحد اللوم على إخوتنا الصم فلا صوت لهم يسمع, ولعل كرسي بحث الإعاقة السمعية وزراعة السماعات "رشد" يقوم بسد بعض هذا الواجب.

9.    النصف الآخر

بعد كل هذا نتفق جميعاً أن السمع أهم من البصر, ولكن الحقيقة الأخرى المغيبة أن السمع يمثل فقط نصف عمل الأذن أما النصف الآخر فيقوم على الحاسة السادسة لدينا نحن البشر وهي التوازن والذي تلعب الأذن الداخلية الدور الكبير في المحافظة عليه ولا يتسع الوقت للتحدث عنه ولكن أكتفي بإجابة أحد المرضى الذي كان يعاني من دوار شديد - بسبب الأذن - عندما طلب منه أن يختار بين فقد السمع أو البصر أو التوازن فقال أتمنى أن أفقد سمعي وبصري ويرجع لي توازني. فالحمد لله على نعمة التوازن والسمع والبصر.

 

بعد هذا دعونا ننظر ونسمع إلى ما توصل إليه العلم الحديث في مجال السمع والبصر والمقارنة هنا حتمية فلن ننفصل يوما عن العين مع أن العين انفصلت عنا في تخصصها بعد أن كنا تخصص واحد كما أنها سبقتنا في إيضاح أهمية البصر للمجتمع والمسئولين فأصبح هنالك مستشفى تخصصيا للعيون, ولو لا الغيرة ما كبرت الصغيرة فلربما نكبر نحن في بلادنا لو استغرنا من العيون. لكن دعونا نتفكر في ما وصل إليه العلم في مجال السمع, لقد أصبح من الممكن علاج أصعب حالات السمع تعقيداً وتأهيلها حتى تتمكن من السماع مرة أخرى, وهذا أصبح بالإمكان عند إجراء عمليات زراعة السماعات مثل القوقعة الالكترونية والسماعة العظمية "الباهة" وغيرها, وأصبح بإمكان الأصم السماع والتحدث بل والتعلم في المدارس العادية أسوة بقرنائه الأصحاء, وإلى الآن لم يتمكن الطب من علاج ضعف البصر العصبي بما يوازي السمع, كما أنه أصبح بالإمكان اكتشاف العديد من الجينات المسببة لضعف السمع وأصبح من الممكن تشخيص هذه الأمراض مبكراً بل والحد منها, وتقوم بلادنا الغالية على ثروة علمية للبشرية في اكتشاف الجينات المسببة لضعف السمع وذلك بسبب كثرتها وبسبب تزاوج الأقارب وكبر عدد أفراد العائلة الواحدة والزواج المبكر وبسبب كون الجينات محمية جداً فلا يوجد اختلاط في الأنساب كما نسمع به في الشرق والغرب. كل هذا يجعل بلادنا على ثروة علمية عالمية نحسد عليها ولن أكون مبالغاً لو قلت أنها تضاهي ما لدينا من ثرة اقتصادية في البترول.

أمام كل هذه الحقائق نسلم أن الأذن أهم من العين وفي كل خير, و كلنا أمل أن يكون للأذن مســتشفى تخصصي يوازي مستشفى الملك خالد للعيون الذي قام بنقلة نوعية في علاج العديد من الحالات الصعبة في بلادنا الغالية بالإضافة إلى تدريب الكوادر الوطنية التي أصبحنا نباهي بها خريجي أعرق المستشفيات والجامعات العالمية. والسؤال إذا لم يكن الآن فمتى يكون؟ وإذا لم يكن في السعودية فأين يكون؟ إذا لم يكن لهذا الحلم أن يتحقق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله حفظه الله لنا ورعاه فمتى يكون وإذا لم يكن لمثل هذا المركز العالمي أن يقام في السعودية ليكون منبر علم للبشرية فأين يكون؟.

هذا والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبيا محمد.

 عبدالرحمن بن عبدالله حجر