تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

أ. د. راشد بن حسين العبد الكريم

Professor

قسم المناهج وطرق التدريس

التعليم
0000
مدونة

توجيهات لكتابة فصل الإطار النظري في الرسالة العلمية

للكتابة الأكاديمية طابعها الذي يميزها عن الكتابة الأدبية أو الصحفية. وكثير من الطلاب يغفل عن هذه الحقيقة. فالكتابة الأكاديمية تعتمد على المنطق العلمي، والموضوعية، وتتصف بالتنظيم والدقة والبعد عن الحشو والإنشائية في الكلام.
ومن مراجعة عدد كبير من الرسائل العلمية، خاصة الإطار النظري فيها، رأيت عددا من الأخطاء تتكرر لدى كثير من الطلاب. وهي أخطاء في الغالب راجعة إلى قلة القراءة وضعف الأسلوب الكتابي. وفي هذا المقال سوف أبين عددا من تلك الأخطاء وأنبه على ما يجب على الباحث لتفاديها. والذي أحب أن أنبه عليه قبل البدء أن هذه الأخطاء تكاد تكون طبيعية لدى الباحث المبتدئ، خاصة من لم يتعود القراءة في المراجع العلمية الرصينة وكتب اللغة الراقية. ومن الطبيعي أن يمكن معالجتها بالتمرن والممارسة الموجهة.
يبدأ كثير من الباحثين فقرته الأولى بنقل من مرجع، وغالبا ما يستغرق النقل الفقرة الأولى كاملة. وهذا يضعف الكتابة الأكاديمية، إذا إن الصواب أن يبدأ الكاتب الباحث بفقرة يصوغها هو، تكون عبارة عن مقدمة أو مدخل لفكرته التي يريد أن يبحثها. فالقاعدة التي يوصي بها كثير من خبراء الكتابة الأكاديمية (لا اقتباس في الفقرة الأولى)
أيضا مما يشيع في كثير من الرسائل العلمية أن ينقل الباحث فقرة كاملة، وغالبا بالنص أو بتعديل يسير، وتستغرق الفقرة خمسة أو ستة أسطر، ثم يضع المرجع في نهاية الفقرة. وقد تقرأ أجزاء كثيرة من الرسالة وهي عبارة عن فقرات قصيرة تنتهي كل منها بمرجع.  فعندما تحلل الصفحتين أو الثلاث من الرسالة (وربما الفصل كاملا) تجده عبارة عن (قص ولصق) لعدد من الفقرات من مراجع مختلفة، ينقصها التحليل والنقد العميقين، والمؤالفة بين الاستنتاجات، التي هي لب الكتابة الأكاديمية. والصواب أن يخصص الكاتب لكل فقرة فكرة مستقلة، ولو صغرت، ويعالجها بعمق معتمدا على أكثر من مصدر، بأساليب التوثيق والاعتماد المختلفة. فمثلا، يبدأ برأيه هو، ثم يؤيده بمرجع أو بعزو إلى مرجع، ثم يذكر من يؤيد أو يخالف، ويفسر المخالفة إن رغب. ومن غير الجيد فصل الحديث عن ذات الفكرة، أو وجه واحد منها في فقرات منفصلة، فهذا يجعل الكتابة "مفككة الأوصال" ويعطي انطباعا بأنها إنشائية وغير علمية. فالقارئ عندما يصل إلى نهاية الفقرة يتوقع أن الحديث عن تلك الفكرة قد انتهى، ثم يتفاجأ أن الفقرة التي تليها (أو، وهو الأسوأ، التي تلي التي تليها) تتحدث عن الفكرة ذاتها.  ومما يساعد في معرفة هذا (وأوصي به دائما طلابي في المراجعة) أن يضع الباحث عنوانا لكل فقرة بجانبها، ثم يلقي نظرة على تلك العناوين ليرى هل هي مترابطة ومتسلسلة أم بينها تنافر أو تكرار أو عدم انتظام.
يلجأ كثير من المؤلفين (خاصة العرب) إلى سرد أفكاره على شكل نقاط (1، 2، 3، ...) وهذا قد يكون سائغا، في الكتب، التي تعاني من الحشو، فتكون النقاط أسلوبا من أساليب الاختصار، أو (رؤوس الأقلام) التي تلخص ما تناثر في صفحات الكتاب. خاصة إذا رأي المؤلف أنه ليس ملزما بالكتابة الأكاديمية وإنما يريد مجرد الشرح والإعلام.  وبعض المؤلفين يرى أن هذا أسهل للقارئ، ويعمل على شد انتباهه. وهو ما يجب ألا تقتصر عليه الكتابة الأكاديمية. فمن الأشياء غير الجيدة في الكتابة الأكاديمية أن يضع الباحث عنوانا ثم يتبعه بقائمة من (الأشياء) دون شرح أو تحليل علمي. بحيث تصبح بعض الرسائل سلسلة من القوائم. والصواب أن على الباحث أن يقدم فكرته بفقرات من الكتابة الأكاديمية، وحتى لو نقل من مرجع ذكرَ قائمة بأشياء، فعلى الباحث أن يدمج تلك القائمة بأسلوب لغوي علمي، ولو لزم الأمر أن يكون كل عنصر في فقرة قصيرة. هذا يزيد من عمق الرسالة ويعطي انطباعا بقدرة الباحث على "هضم" ما يقرأ بشكل واعٍ، وإعادة إنتاجه وتطويره. وهو فرصة لظهور "صوت" الطالب ونفَسه اللغوي والفكري.
من الملاحظ أن بعض الطلاب يهجم مباشرة على الموضوع الذي يريد الحديث عنه، دون مقدمات توطئ للموضوع. والصواب أن يجعل الباحث لكل قسم في الفصل مدخلا مناسبا، ويبين للقارئ ما الذي سيتحدث عنه وبأي طريقة. فعادة فصل الإطار النظري ينقسم إلى عدد من الأقسام، فيكون الأفضل أن يقدم بمقدمة للفصل يبين فيها هدفه والأقسام الأساسية فيه، ثم قبل كل قسم يمهد له بمدخل مختصر. وكذلك من المناسب أن يضع خاتمة لكل قسم من أقسام الفصل تلخص وتذكّر بالنقاط الأساسية فيه، بحيث تكون صلة وتهيئة لما بعده. اعتماد المدخل والخاتمة لكل قسم يساعد على وضوح أفكار وحسن التنظيم والسلاسة في الانتقال بين أجزاء الفصل.
من الملاحظات التي لا تخطئها عين قارئ، طول الجمل. فكثير من الطلاب يجعل الفقرة التي قد تستمر لأسطر (وربما نصف صفحة أو أكثر) جملة واحدة. فلا يفصل بينها بنقطة. وحجته في ذلك أن الكلام مرتبط بعضه ببعض. وأنا أضع اللوم أحيانا في هذا على بعض كتب الترقيم باللغة العربية. فهي ترى أن الجملة يمكن أن تستمر ويُكتفى بالفواصل طالما كانت العبارات في موضوع واحد. وهذا، من وجهة نظري غير صحيح. بل يجب أن تكون الفقرة مكونة عدد من الجمل المناسبة الطول، التي يتم الوقوف فيها وقوفا تاما بالنقطة (.)، ويبدأ الكاتب جملة جديدة، ولو كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بما قبلها. وكمثال على هذا هذه الفقرة التي تقرأها يمكن أن يكتبها بعض الطلاب دون أن يضع أي نقطة، بل يكتفي بالفواصل. ومع أن وضع النقاط وتحديد انتهاء الجمل أمر اجتهادي ويعتمد على المعنى وأسلوب الكاتب، لكن بشكل عام، كلما استطاع الكاتب أن تكون جمَلهُ قصيرة وواضحة فهذا أسهل في الكتابة وأسهل في القراءة والفهم، إلا ما دعت الضرورة له.
يعتمد بعض الباحثين على تقرير فكرة أو دعمها على مرجع واحد، ولذلك تجد كثيرا من الفقرات ليس فيها إلا مرجع واحد، وغالبا في الأخير. وهذا ضعف في الكتابة وضعف علمي أيضا. فالكتابة الأكاديمية علمية بمعنى أنها تدعم كل دعوى بمرجع علمي (بحث أو كتاب علمي)، وأيضا لا تقتصر في القضايا الخلافية أو المتشعبة على قول واحد، بل تناقش القضية من جوانبها، بحيث تذكر من يخالف ومن يوافق، ومن يفصل بمعنى أنه يخالف من وجه ويوافق من وجه. وهذه هي صفة الباحث الجيد، والكاتب الجيد بشكل عام. فالكتابة العلمية ليست مجرد نقل لما قاله السابقون، بل هي عملية معقدة من القراءة النقدية لما قالوه والتحليل والتفسير وطرح الفرضيات، لتحقيق القضية التي قيد البحث. 
والذي يجر بعض الطلبة لهذا أنه يقرأ في المراجع، وعندما يرى نصا يوافق ما يريده في القضية التي يبحثها فإنه يتمسك به وينقله كما هو، ولا يرغب فيما يخالفه، وهو يظن أن هذا يقوي بحثه. بينما قد يكون تميز رسالة الباحث أو كتابته في الأشياء التي تخالف ما هو متوافق عليه في مجاله.
يقوم بعض الطلاب في سياق النقل غير النقدي بنقل نصوص من أدلة أو نشرات تعريفية إعلامية، فينزلق إلى كتابة (توجيهات) لعمل بعض الأشياء المتعلقة ببعض المفاهيم في القضايا التي يبحثها. فمثلا عندما يتحدث الباحث عن التقويم، تجده ينسى نفسه فيكتب بعض التوجيهات لبناء التقويم الصادق التي وجدها في بعض الكتب. والرسالة العلمية ليست محلا لمثل هذا، فالباحث لا يقدم فيها توجيهات أو إرشادات لعمل شيء، إنما يبين ويشرح القضايا المرتبطة بمشكلة بحثه.  ولذلك أيضا على الباحث أن يتحاشى عبارات مثل (يجب ... أو ينبغي...) فهذه لا تناسب الكلام العلمي النظري الذي في مجمله وصفي تفسيري وليس توجيهيا.
يتوسع بعض الطلاب في إدخال كل ما يتعلق بموضوع دراسته في (الإطار النظري). فيجعل كل كلمة في عنوان الرسالة داخلة في الإطار النظري. وهذا غير صحيح، بل يحول فصل الإطار النظري إلى "كتاب". والصواب أن يقتصر الباحث على القضايا الأساسية في (مشكلة البحث) وليس موضوعه. فالإطار النظري يتعلق بمشكلة البحث لا بموضوعه. وهذا يخفف على الباحث كثيرا، ويعفيه من كثير من الحشو الذي يلازم كثيرا من الرسائل العلمية. عندما تضع عناصر الإطار النظري اطرح هذين السؤالين: (هل لهذا الموضوع علاقة بمشكلة البحث؟) و (ما الذي يقدمه هذا الموضوع لمشكلة بحثي؟) إذا كانت الإجابة واضحة وإيجابية فامضِ، إذا كانت غير ذلك فمعناه أن هذا الموضوع على الأرجح ليس له علاقة بالإطار النظري، بل هو حشو.
هناك كلمات أعدها (غير أكاديمية)، بالرغم من أننا تعودنا عليها في حديثنا اليومي وكتابتنا الصحفية، لكنها تؤثر على الطابع الأكاديمي للكتابة. وذه الكلمات هي الكلمات غير المنضبطة أو التي لا معيار لها، مثل (لا شك)، أو (مما لا شك فيه ...) أو (لا يختلف اثنان) أو (وهذا أمر خطير) فهذه العبارات ونحوها. فعندما لا يكون هناك شك في قضية ضع العبارة التي تدل عليها بشكل مباشر ودعم (زعمك) بمرجع. فبدلا من (ومما لا شك فيه أن التغذية الراجعة تساعد على التعلم) يمكن أن تقول (تساعد التغذية الراجعة على التعلم (مرجع، ...). ) أو (تشير كثير من البحوث إلى الأثر الإيجابي للتغذية الراجعة على التعلم (........).  ) .
الباحث العلمي دائما متحفظ في عباراته، ويستخدمها بدقة، بقدر ما يسمح له المنهج العلمي، وإلى الحد الذي يخوله الدليل العلمي. ولذلك فليس من المقبول في الكتابة الأكاديمية التوسع في عبارات مثل (أثبتت البحوث)، أو (دلت البحوث)، أو (أتفق العلماء ...) ونحو ذلك من العبارات الجازمة التي لا يسندها دليل واضح.  فعلى الباحث دائما أن يكون دقيقا فيستخدم عبارات مثل (اشارت بعض البحوث ...) و (يستطيع الباحث القول بالأثر الإيجابي للتغذية الراجعة اعتمادا على نتائج كثير من البحوث...) ونحو ذلك من العبارات التي تمنع من الجزم في مواطن الخلاف. وبشكل عام على الباحث أن يتجنب العبارات القطعية الوثوقية.
الكتابة العلمية الأكاديمية نوع خاص من الكتابة، له قواعده التي تميزه عن بقية أنواع الكتابة. وهي من الصفات اللازمة للأكاديمي الناجح. ويحتاج إتقان هذا النوع إلى معرفة بتلك القواعد، ودُربة واطلاع واعٍ على أمثلة من الكتابات الأكاديمية.