تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

أ. د. راشد بن حسين العبد الكريم

Professor

قسم المناهج وطرق التدريس

التعليم
0000
مدونة

الكاتب واللغة - توجيهات للنمو اللغوي

الكاتب واللغة
لكي تكتب يجب أن تكون حصيلتك اللغوية وافرة. فلئن كانت الأفكار روح الكتابة فاللغة جسمها. وكثير من الكتاب يريد أن يكون كاتبا متميزا لكنه لا يرى حاجة لتطوير لغته، أو لا يريد أن يبذل جهدا في ذلك. وهذا خطأ واضح. فضعف اللغة يجعل الكاتب محصورا في قوالب تعبير محددة، ويمنعه من التنوع في طرح أفكاره، وإيضاحها، وقد يكون أيضا ذا أثر سلبي على توافر الأفكار وتكاثرها. فبين التفكير واللغة تداخل وعلاقة جدلية.
إن التمكن من اللغة يعني الحصول على عدد كبير من الألفاظ وإتقان أساليب كتابية أكثر، والقدرة على التعبير عن المعنى بعبارات متنوعة، ومعرفة الطرائق البلاغية المناسبة لكل فن من فنون الكتابة ومقاصدها، والمواءمة بين اللفظ والمعنى. بالإضافة إلى سلامة اللغة من جهة النحو، فلا يقع في اللحن والأخطاء الاستعمالية الشائعة ولا يستخدم الأساليب السوقية في التعبير.
واللغة مهارة، يمكن تطويرها كما يمكن تطوير أي مهارة أخرى. وليس أضر على الكاتب – في لغته – من اعتقاده أن اللغة طبيعة لا تتغير. ومصدر هذا الوهم هو أن الإنسان لا يشعر بتطور لغته، ولا يجرب أن يطورها ويرصد التغير الذي يحصل له. ولهذا لا يكلف نفسه عناء تحسين لغته بتعلم ما يجهله من أساسياتها وبالقراءة لبلغاء الكتاب وذوي اللغة العالية.
لكن مشكلة تطور اللغة أنه يحتاج وقتا، فلا يتوقع الكاتب أن تتطور لغته بشكل ملحوظ من قراءة كتاب في أسبوع أو أسبوعين. كما أن الكاتب لا يتفطن لهذا التطور غالباـ لأنه يحدث تدريجيا، ولا يظهر أثره بشكل واضح. لكنه في الواقع يتطور وإن لم يشعر بذلك.
وهنا أسوق عددا من التوجيهات التي يمكن أن تساعد الكاتب على تطوير لغته.
1. القراءة، فالقارئ يستمد ما يكتبه من ألفاظ وتراكيب وأساليب مما يقرأه، فالقراءة مادة الكتابة والحديث، فلذلك كلما زادت القراءة وارتفع مستواها اللغوي كان ذلك أدعى لجودة الكتابة. وليست كل قراءة مفيدة في هذا المجال، فقراءة الكتاب "العاديين" – مثل أكثر كتاب الصحف - قد لا تكون بتلك الفائدة المتوقعة. بل على الكاتب أن ينتقي لمن يقرأ له إن رام الفائدة في تطوير لغته. وعليه أنه يبدأ أولا بكتاب الله، ويدمن النظر فيه ويكرر آياته، ويتأمل في أساليبه، فهو الغاية في الفصاحة والبلاغة، وله تأثير قوي على تجويد الأسلوب. وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم عليه بعد ذلك بمطالعة كتب الأدب المشهورة، والانتقاء منها مثل (الكامل) للمبرد (والبيان التبيين) للجاحظ و (عيون الأخبار) لابن قتيبة و (العقد الفريد) لابن عبد ربه. وكذلك كتب بعض العلماء ممن لم يشتهروا في مجال الأدب لكنهم تميزوا بقدرتهم الكتابية مثل ابن تيمية وابن القيم وابن الوزير اليماني رحمها الله، فكتبهما تجمع بين العلم وأساليب البيان والمحاججة العقلية واللغة القوية الرصينة. ومن الكتاب المعاصرين أوصي بكتب محمود شاكر ومساجلاته مع كتّاب عصره، وكتب أديب العربية مصطفى صادق الرافعي، وهي فيما أرى مفيدة في تجويد الأسلوب وبناء الملكة اللغوية، لأن الرافعي رحمة الله على علو لغته كان يتقصد تجويد أسلوبه ويبالغ في ذلك.  ومن المهم أيضا مطالعة كتب الشيخ علي الطنطاوي، فهي على سلاسة أسلوبها وخفته ذات لغة بليغة عالية. وهذا على سبيل التنبيه وإلا فالكتب المفيدة كثيرة. ومما ينبغي التنبيه عليه أن القراءة في هذه الكتب ضرورية لتطوير اللغة والأسلوب حتى لو كان الكاتب يكتب كتابة علمية. فالقراءة للكتاب والأدباء المتميزين يطور اللغة بغض النظر عن المجال العلمي الذي يتخصص فيه الكاتب. بل ربما كان قوة لغته وجودة أسلوبه عونا كبيرا له على صياغة الأفكار العلمية التخصصية بلغة سهلة تجعل كتابه متميزا عن غيره.
2. السماع، فسماع الخطب البليغة، وسماع الكتاب والمتحدثين ممن يتميز بلغة سليمة، لا يقل أهمية عن القراءة من حيث تجويد لغة الكاتب. وقد يكون لتآزر القراءة والسماع أثرا زائدا على أثرهما مفترقين.
3. الرجوع إلى المعاجم، وكثرة مطالعتها. فالمعاجم هي مخازن اللغة ومناجمها، ومن طالع المعجم العربي فسيندهش من غناه، وسيعجب من اقتصار كثير من الكتاب على عدد قليل من الألفاظ لا يتعداها. وسيتفاجأ أيضا بأن كثيرا من الكلمات التي نظنها عامية ونتحاشا استخدامها هي عربية فصيحة.
والمعاجم نوعان: معاجم الألفاظ ومعاجم المعاني. فمعاجم الألفاظ كالقاموس المحيط ولسان العرب تهتم بجمع المفردات وبيان العلاقة بين المفردات في الجذر اللغوي الواحد، مع توضيح معانيها. بينما معاجم المعاني كـ (الألفاظ الكتابية) و (أدب الكاتب) و(الفروق) و (جواهر الألفاظ) ونحوها تهتم ببيان الألفاظ المرتبطة بمعنى واحد ولو تفرقت جذورها واشتقاقاتها، وتحدد استخدام كل لفظ. وقد يلحق بهذا في هذا العصر المعاجم التي تهتم ببيان الأغلاط اللغوية كمعجم الأغلاط اللغوية للعدناني. فمطالعة هذه الكتب تزيد الحصيلة اللغوية، وتوسع خيارات الكاتب في التعبير عن فكرته أو عن المعنى الذي يريده، وتبين الفروق الدقيقة بين المفردات المتقاربة في المعنى، فتكسبه الدقة في ذلك. فإن من زادت حصيلته في المفردات تحقق فيه كلام الجرجاني عندما قال "... ولن تجد أحسن أولا وآخرا، وأهدى إلى الإحسان وأجلب للاستحسان من أن ترسل المعاني على سجيتها وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إن تركت وما تريد لم تكتسِ إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعَارض إلا ما يزينها ..."
لكن احذر أن يكون هدفك تكلف اللفظ الغريب، أو المبالغة في السجع بما لا يحتاجه تركيب الكلام، حتى لا يتحول النص إلى صنعة لفظية سمجة.
4. عند مراجعة النسخة الأولية (تبييض المسودة) عود نفسك أن تتفنن في الأسلوب بحيث توظف المهارات التي مرت عليك أثناء قراءتك فيما كتبته، فتنوع الألفاظ، وتغير ما ترى مناسبة تغييره. ففي النسخة الأولى (المسوّدة) يفضل ألا يهتم الكاتب بصنعة الكتابة، بل يركز على المعاني. لكن حال المراجعة وتبييض المسودة هو موضع الاهتمام باللغة. فإذا تكرر لفظ في أسطر قليلة فارجع إلى القاموس لتجد لفظا مختلفا يؤدي المعنى، وقد تجد كلمة تعطيك المعنى بشكل أدق وأخص. فـ (قصم) غير (فصم) وإن كان كلتاهما تدلان على القطع. وكذلك الضعف والوهْن، ونحوها.
إن قراءة الكتب وإدمان النظر في كتابات البلغاء والأدباء تطوِّر لغة الكاتب دون أن يشعر. والذي يشعر بذلك هو القارئ، وربما أحس بتفرد أسلوب الكاتب دون أن يتبين سبب هذه التفرد. وقد يحتاج الكاتب في بداية الأمر إلى التكلف في استدخال بعض الفاظ أو العبارات أو استخدام بعض الأساليب، لكنه مع مرور الوقت وكثرة الكتابة تصبح من طبيعة أسلوبه، وتتغلغل في كتابته دون شعور منه.