خوارزميات الحياة - من ثلاجتي الى قناة السويس

نشر هذا المقال في المجلة الثقافية عدد 76 يناير 2012 صفحة 42

من ثلاجتي الى قناة السويس  ...عقل حاسوبي لم يكتشف!!!  

 
     ترتيب الثلاجة ومحاولة اكتشاف الطريقة المثلي لإحتواء الثلاجة بأكبر كمية من الحاجيات وبطريقة منظمة ومرتبة كانت ومازلت هوايتي المفضلة . ففي كل مرة أعود فيها  من السوبر ماركت محملة بعدد كبير من الأكياس يقفز تفكيري الى ثلاجتي الصغيرة ومشكلة ترتيب الاغراض داخلها.
 
فوجود الثلاجة ذات الحجم الكبير من النوادر هنا في بريطانيا.  فالشقق صغيرة الحجم مقارنة بالسعودية وبالتالي كل مافي الشقة يتناسب مع حجمها حتى الثلاجة !!!
 
أعود الى مشكلة ترتيب الاغراض داخل ثلاجتي الصغيرة, في كل مرة أصل  الى حل أمثل من وجهة نظري على أقل تقدير. ولكن الحل  يخلتف  في كل مرة حسب اختلاف حجم الاغراض.  فاحيانا اضع في كل رف  اغراض تتناسب مع حجم الرف. وفي احيان اخرى احرك رف من مكانه الى الاعلى او الاسفل لتحرير مساحة اكبر لغرض ما  وهكذا. ولكن  في كل الحالات  هدفي هو وضع أكبر قدر من الأغراض والتقليل من المساحات الغير مستغلة قدر الإمكان.
 
أكاد أجزم بأن اغلبنا إن لم يكن جميعنا  قد تعرض لمثل هذه المشكلة في حياته. إن لم يكن ترتيب الثلاجة, فترتيب حقيبة السفر أو دولاب الملابس أو حتى وضع الأطباق على سفرة الطعام !!
هذا النوع من المشكلات عند علم الحاسوب و علم بحوث العمليات (Operational Research) يُعرف بمشكلات الحياة الأمثلية  ((Real-world Optimization Problems   
 
 الأمثلة لهذة المشكلات  كثيرة ومتنوعة. و تكاد تكون في جميع مجالات الحياة. ومن اشهرها مشكلة زيادة خط الإنتاج في المصانع. أو كمشاكل الموصلات  وما يندرج تحتها كزحمة السير وتصميم الطرق.  ومشاكل الجدولة وما يندرج تحتها  كجدولة الرحلات الجوية و جدولة مواعيد الباصات و جدولة الحصص في المدارس دون حدوث تعارض بين المدرسين. و حتى جدولة مواعيد المراجعة وإجراء العمليات للمرضى في مستشفى ما.
 
قبل اختراع الحاسوب كان لعلم الإدراة النصيب الأكبر بالاهتمام بهذا النوع من المشكلات.  فكانت معظم الحلول تعطي نتيجة  للتفكير البشري ونظريات خاصة بالإدراة وعن طريق الخبرات المكتسبة (كحالتي انا مع مشكلة الثلاجة). في  كثير من الاحيان نصل لحلول نعتقد بأنها مثالية. ولكنها  في الحقيقة ليست بالضرورة أن تكون أفضل الحلول. وقياساً على مثال الثلاجة, فقد يكون أحد الحلول هو شراء ثلاجة أكبر!. ولكن من وجهة نظر علماء الإقتصاد هذا الحل هو الأسوء على الإطلاق. لأنه مكلف مادياً, فتوفير المال احيانا والطاقة من أهم الأهداف لحل المشكلة .
 
وفي بعض الأحيان يكون حجم المشكلة أكبر مما يمكن أن يستوعبه العقل البشري, وبالتالى يكون التوصل لحل أمثل أمر يصعب تحديده. لذلك تم الإستعانة بالحاسوب عن طريق خوارزميات خاصة  لكل مشكلة, للوصول الى حل أمثل أو قريب من الأمثلية. ومن اشهر هذة  الخوارزميات: خاوارزمية الجينات¹ وخاورازمية البحث المحرم² وغيرها الكثير.  ومازل البحث العلمي في هذا المجال خصباً. و الكثير من الخوارزميات الجديدة تظهر بين وقت و آخر على الساحة العلمية.  ولن اخوض مفصلة حول طريقة عمل الخورزميات. ولكن ببساطة  يجب اولاً أن تٌحول  كل مشكلة حياتية الى صيغة أو معادلة رياضية خاصة بها. وظيفة الخورزميات هنا هو البحث عن الحل أو المتغير الذي يحل  المعادلة و يحقق قيمة الهدف. فاذا كان الهدف من  المشكلة هو التكبير كزيادة الإنتاج,  فالحل الأمثل هنا هو البحث عن أكبر قيمة (متغير) يحقق المعادلة . اما في حالة اذا كانت المشكلة تصغير كتوفير الطاقة أو عدد العمال في مصنع ما, فالحل الأمثل هنا  هو البحث عن أصغر قيمة (متغير) يحقق المعادلة.
 
وهناك أيضا الكثير من النظريات التى وضعت لحل هذا النوع من المشكلات كنظرية الطابور³.  
 ومن المشاكل الشهيرة التى تم حلها بواسطة خوارزمية خاصة معتمدة على هذة النظرية مشكلة قناة السويس³ .
 
 ففي عام (1958) طلبت الهئية العامة لقناة السويس بالبحث عن حل يساعدها على زيادة  عدد السفن المارة بالقناة, وبالتالي زيادة مدخولها المادي منه .فنظراً لضيق قناه السويس فانه لايسمح الا بمرور عدد محدود من السفن يومياُ بحيث لايتعارض  سير هذه السفن مع بعضها . اي أنه لا يمكن أن تعبر القناة سفينتين متعاكستي الإتجاه في نفس الوقت.  فلذلك قُسم  اليوم الى ثلاث فترات خُصصت للسفن القادمة من البحر الاحمر متجهة الى البحر المتوسط , و للسفن القادمة من البحر المتوسط متجهة الى البحر الاحمر وذلك حسب جدولة معينة لسير هذه السفن .

والمشكلة الحقيقة كانت للهئية العامة لقناة السويس حينها هو تزايد عدد السفن الراغبة بالمرورعبر القناة في بعض المواسم. ولأن الوضع الحالي للقناة لا يسمح باستعابها كلها, والسفن لا ترغب بالانتظار طويلاً للسماح لها بالمرور.  مما يجعلها تفضل ان تبحر عبر راس الرجا الصالح عوضأً عن الانتظار رغم طول الطريق. وهذا يتسسب في فقد الهئية العامة لقناة السويس دخلاً لا بأس به من مردود ضرائب مرور السفن. كان أحد الحلول هو حفر قناة ثانية قرب القناة الاولى, لإستعاب العدد الكبير من السفن. ولكن هذا الحل كان صعب جداً ومكلف بالنسبة للحكومة المصرية.  فمشروع الحفر يحتاج الى ميزانية كبيرة جداً.ولكن فبفضل من الله ثم الحاسوب توصل العالم  جيف جريفيث

Jeff Griffiths)) من جامعة كارديف _ويلز الى حل دون أن يكلف الحكومة المصرية قرشاً واحداَ!. ويزيد من عدد السفن المارة الى أكثر من الضعف. وذلك عن طريق استخدام خوارزمية خاصة, وتغيير جدولة مرور السفن من نظام الـ24 ساعة الى نظام الـ 48 ساعة!!

 
أليست هذه معجزة استطاع الحاسوب صنعها بفضل من الله؟!
 
 كثيرأً من المشكلات الحياتية التى نواجهها نعتقد أنها مستحيلة الحل, أو أنها قد تحتاج الى ميزانيات كبيرة . والمثير هنا أن الحل  يكمن فقط في ضغطة زر لخوزامية خاصة دون تكلفة تذكر!!
 
فمشكلات كالتى نعاني منها في المملكة العربية السعودية كزحمة الطرق, قد لاتحتاج الى بناء جسور جديدة أو حفر انفاق لإستعاب عدد أكبر من السيارات!
و مشكلات كعدم توفر اسرة تنويم في مستشفي ما, أو الحصول على موعد مراجعة عند طبيب ما قد لاتحتاج الى بناء مستشفى آخر لإستعاب عدد أكبر من المرضى !!
كل مانحتاجه هو تبني هذا العلم, وتفعليه لحل مشاكلنا الحياتية بما يحقق الأهداف الخاصة بنا أسوة  بالدول المتقدمة. وفي اعتقادي أن أحد أسباب الحضارة المدنية في تلك الدول هو تبنيهم هذا العلم,  واهتمامهم بهذا النوع من المشكلات وتحديدهم الأهداف الخاصة لحل كل مشكلة, ومن ثم البحث عن الحل الأمثل الذي يحقق الهدف.
 
فاصلة اخيرة:
دعوة الى كل الطلبة  في مجال الحاسوب بدراسة هذا العلم  ,ومشاركتي الشغف به والغوص في أسراره.  فمملكتنا بحاجة الى إبداعات أبنائها الخوارزمية! 

 
المراجع:
 
¹ Holland, J. (1975). Adaptation in Natural and Artificial Systems, University of Michigan Press, Ann Harbor.
 
² Glover, F. (1986). Future paths for integer programming and links to artificial intelligence, Computer and Operation Research, 13:533-549. 
 
³ Griffiths, J.(1995) Queueing at the Suez Canal, Journal of the Operational Research Society, 46:1299-1309
مشاعل معشي
باحثة دكتوراة في علوم الحاسبات – جامعة نوتنجهام
عضو في مجموعة البحث (الجدولة الالية والتخطيط الأمثل)
Member of Automated Scheduling, Optimisation and Planning (ASAP) Research Group
The University of Nottingham