تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

د. مسفر بن عتيق الدوسري

Assistant Professor

قسم الاقتصاد . عضو هيئة التدريس

كلية إدارة الأعمال
كلية ادارة الأعمال- قسم الاقتصاد-مكتب S156
المنشورات
كتاب
1429

التأمين الصحي في مجتمع اسلامي

الدوسري, مسفر بن عتيق . 1429

اقتصاديات صحة، اقتصاد اسلامي، تأمين صحي

الندوة العالمية للشباب الإسلامي
     لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم
         لجنة المكتبة و قواعد المعلومات
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
التأمين الصحي في مجتمع إسلامي
 
 
 
 
 
د. مسفر بن عتيق الدوسري
أستاذ اقتصاديات الصحة في كلية العلوم الإدارية
    جامعة الملك سعود
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                             
 
    التأمين الصحي في مجتمع إسلامي
 
رئيس الجلسة: الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد و على آله و صحبه و من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.....
          أيها الأحبة الأكارم، نرحب بكم في هذه الأمسية الطيبة في يوم الثلاثاء السابع و العشرين من شهر ربيع الأول عام 1427هـ، في إحدى ندوات "لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم" في "الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، و عنوان محاضرة الليلة هو "التأمين الصحي في مجتمع إسلامي".
          محاضرنا هو الأستاذ الدكتور: مسفر بن عتيق الدوسري، و هو عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود كلية العلوم الإدارية، و التخصص: اقتصاديات الصحة و اقتصاديات التنمية.
          و الحقيقة أن التأمين من الموضوعات الجديدة علينا في المجتمع السعودي، و هو من الأشياء المعروفة على المستوى العالمي و نحن مقبلون على مرحلة التطبيق الإجباري له بالنسبة للسعوديين، أما غير السعوديين فكما تعلمون أصبح أنه ملزماً، فكثير من المفاهيم المتعلقة بالتأمين الصحي نجهل كثيراً منها، و طرحها بهذا التصور نرجو أن يزيدنا فهماً، و نتعرف على التصور الإسلامي عن هذا النوع من أنواع التأمين، و لعله إن شاء الله بعد أن نترك للدكتور مسفر الحديث بحدود 45 دقيقة ثم نترك المجال لكم إن شاء الله للنقاش فليتفضل مشكوراً...
 
          الدكتور مسفر: السلام عليكم و رحمة الله ...
          إن الحمد لله نحمده و نستعينه، ونستغفره و نستهديه، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده  الله  فلا مضل له، و من يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً و الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله و صحبه و سلم تسليماً كثيرا و عنا معهم ووالدينا و جميع المسلمين.
          أشكر الأخوة في لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم، كما أشكر لمعالي الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي حسن ظنهم و كريم دعوتهم... كما أشكر لكم تفضلكم بالحضور و حسن ظنكم...
          أراد الأخوة الفضلاء في هذه الليلة المباركة –إن شاء الله تعالى- أن نفتح نقاشاً حول التأمين الصحي في مجتمع مسلم أو مجتمع إسلامي.
          هذا الموضوع ضخم، و له تداخلات مع غيره، و قد يحتاج بسطه إلى وقت طويل، خاصة و نحن نريد أن نؤصل بعض المفاهيم، الإخوان أعطونا 45 دقيقة، لكن لعلنا نسلط الضوء على بعض النقاط الهامة فما لا يدرك جله لا يترك كله.
التأمين الصحي في مجتمع إسلامي..
المجتمع الإسلامي هل يختلف عن غيره؟
و إذا كان يختلف، فكيف يختلف؟
بدايةً.. التأمين الصحي.. إلى أي العلوم ينتسب؟
هذا الموضوع.. أليق العلوم به: هو علم الاقتصاد، و تحديداً اقتصاديات الصحة –و اقتصاديات الصحة فرع من فروع علم الاقتصاد- ..و علم الاقتصاد علم مظلوم، فكثيراً ما ينسب إليه ما ليس منه، و ينسب إليه تطبيقات الأنظمة الاقتصادية المختلفة على أنها منه، خاصة تطبيقات الرأسمالية و هو بريء منها.
علم الاقتصاد يبحث فيما يسميه الاقتصاديون (المشكلة الاقتصادية)..
 

 

 
 
3

 
 
 
 
 
 

 

2

و المشكلة الاقتصادية لها شقين:

 

 
 

 
 
 
 
 
 
 
 

فالشق الأول: يعني أن المشكلة تحدث بسبب تعدد و تزايد حاجات و رغبات أفراد المجتمع عبر الزمن، سواءً الحقيقية منها أو غير الحقيقية.
و كل المجتمعات عندها حاجات، و عندها رغبات، و بعض الرغبات حقيقي، و كثير منها غير حقيقي، و كل هذه الحاجات و الرغبات يراد لها أن تلبى و أن تشبع. و القضية هي كيف تشبع هذه الحاجات و الرغبات؟. لكن دعونا نرى أولاً: الحاجات و الرغبات و كيف يمكن تصنيفها: يمكن أن تصنف الحاجات و الرغبات في المجتمعات إلى خمسة أصناف:

 

 
 

 
 
 
 
 
 
 
 

الصنف الأول: يمكن أن نسميه الضروريات، و الضروريات هي تلك الحاجات و الرغبات التي بفقدها تتضرر الكليات الخمس، الدين و العرض و النفس  و العقل و المال. و لذلك يجب أن تشبع بأولوية.
بعدها: الحاجيات، و الحاجيات سلع و خدمات فقدها لا يؤثر على الكليات الخمس و لكن يؤدي إلى ضيق الحياة و عسرها مثل الكهرباء فلن نموت بدون الكهرباء، و لكن وجود الكهرباء يجعل الحياة أكثر رغداً و راحة.
بعد هذا: تأتي الكماليات، و توفرها يجعل الحياة سهلة و سلسة كما أن فقدها لا يجعل الحياة صعبة أو قاسية، مثل فتح الأبواب عن بعد و مثل فتح نوافذ السيارات بالكهرباء و نحوها.
ثم الإسرافيات، و الإسرافيات في أصلها مباحات، و لكنها ذهبت إلى غير نفع مثل فائض الولائم، أصل الطعام مفيد و نافع لكن إذا زيد عن الحد فرمي نكون قد أسرفنا و أهدرنا الموارد.
بعدها: تأتي التبذيرات، و التبذيرات هي ما يأتي بالضرر مثل ما ينفق على التدخين و الخمور و المخدرات و الإعلام الهابط، فهناك موارد ذهبت لإنتاج سلع و خدمات و لكنها انتهت تسبب الضرر للأفراد و المجتمعات.
نعود للشق الثاني من المشكلة الاقتصادية، فهذه الحاجات و الرغبات الحقيقية يقابلها محدودية في الموارد الاقتصادية، محدودية نسبية عندما ننسب إلى الحاجات و الرغبات هذه الموارد الموجودة. فإذا أردنا أن نشبع هذه الحاجات و الرغبات الحقيقية و غير الحقيقية فيلزمنا موارد و الموارد مهما كانت كبيرة إلا أنك إذا نسبتها إلى حاجات الناس و طموحاتهم و رغباتهم الحقيقية و غير الحقيقية فإنها ستبقى نادرة.. نحن لا نقول أن الموارد نادرة ندرة مطلقة، فإن الله جل و علا أنزل من الخيرات على هذه الأرض ما يفي بمتطلبات أضعاف البشر، ولكن أكثر ما يسبب المشكلة الاقتصادية هو سلوك الأفراد.. إذاً سلوك الأفراد يضخم المشكلة أو يحجمها.
لنرى الآن كيف ُتلبى الحاجات و الرغبات. هذه الحاجات و الرغبات التي تكلمنا عنها (الضروريات، و الحاجيات، و الكماليات، و الإسرافيات، و التبذيريات) إذا أردنا أن نلبيها نحتاج إلى إنتاج. مثلاً: الجوع، يراد له أن يسد، كيف نسده؟ نحتاج إلى إنتاج.. و الإنتاج عبارة عن سلع و خدمات، بالنسبة للإنتاج الذي يسد الجوع هو الغذاء. و كيف نحصل على إنتاج؟ نحصل على الإنتاج عن طريق العمليات الإنتاجية، مثل: الزراعة، الصناعة، التعليم، الغذاء.. الخ. و كيف أحصل على العمليات الإنتاجية؟  نحصل عليها عن طريق توظيف الموارد. و الموارد هي ما يدخل في العمليات الإنتاجية و تنحصر في:

  1. < >الموارد الطبيعية و هي كل ما يدخل على خلقته في عمليات الإنتاج.
  2. و الأصول المنتجة وهي ما لا يدخل على خلقته في عمليات الإنتاج مثل الآلات و الأجهزة و المباني (يطلق عليه اصطلاحاً عند الاقتصاديين رأس المال).

     

           
     
    4
       
     

     
     
     
     
     
     
     
     

الحاجات و الرغبات تتزايد عبر الزمن، فما كان أجدادنا بحاجة إليه من سلع و خدمات مقارنة بسلع و خدمات جيلنا قليلة جداً. و الموارد مهما كانت كبيرة، فما هو متوفر لكل مجتمع منها –إذا نسبتها إلى ما يريد ذلك المجتمع أن يحصل عليه من سلع وخدمات عن طريقها- ستجدها نادرة أو محدودة نسبياً، لو لم تكن محدودة نسبياً لوجد كل طالب كرسياً في الجامعة، و كل مريض سريراً في المستشفى،وكل من يريد سكناً يجده وهكذا.  وهذه الحقيقة المتعلقة بالمشكلة الاقتصادية تلزم المجتمعات بالإجابة على مجموعة من الأسئلة، فجميع المجتمعات بدون استثناء مادامت على هذه الأرض فهي تواجه تعدد الرغبات والحاجات مع المحدودية أو الندرة النسبية للموارد، نسبة إلى السلع والخدمات. نعم كل المجتمعات يواجهونها، وما داموا يواجهون هذه المشكلة يحتاجون إلى أن يتعاملوا معها، أما كيف يتعاملون معها؟ فيكون ذلك بأن يجيبوا على أسئلة المشكلة الثلاثة (التي رأيناها في اللوحة الأولى) بطريقة صحيحة. ويجب أن يضعوا أولويات لما سوف ينتجون؟ فهذه الموارد المحدودة يجب أن يحدد إلى أين تذهب؟ فإذا لم يضعوا في اعتبارهم كمية ونوعية السلع التي يراد إنتاجها فإن مواردهم تهدر. أيضاً يلزمهم تحديد طريقة إنتاج أو تقديم السلع والخدمات، فليست كل الطرق مقبولة، لأن هناك طرق إنتاج تهدر الموارد، فلو أردنا مثلاً أن نزرع قمحاً ونحن في مصر فإننا سنكثف الماء لأن نهر النيل موجود، وعندنا في وسط جزيرة العرب سنكثف رأس المال أي الآلات والأصول المنتجة، لأن الماء أندر من رأس المال، لذا نجد الآن المزارعين أخذوا في استخدام الرشاشات المحورية ليوفروا الماء. وأيضا يلزم أن ً يجاب على سؤال  لمن يُنتج؟ أي تحدد طريقة التوزيع لعوائد الإنتاج، فما كل طريقة توزيع تقبل من كل مجتمع وفق معتقداته.
          نأتي الآن إلى علم الاقتصاد، علم الاقتصاد يدور حول هذه المشكلة الاقتصادية يحاول أن يخففها، لن يزيلها لأنها موجودة وتواجه كل مجتمع، لأن الموارد محدودة نسبة إلى تصرفات الناس وإن كانت كثيرة و وفيرة والأدلة على كثرتها مستفيضة، علم الاقتصاد يأتي ليعالج أو يتعامل مع أو ليخفف هذه المشكلة.  وعلم الاقتصاد له تعاريف كثيرة ولكن ربما أفضل تعريف له هو أنه:

 

 
 
5

 
 
 
 
 
 
 

هو علم اجتماع ( وضع تحت كلمة الاجتماع عدة خطوط ) . ويدرس التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية، التي هي عناصر الإنتاج التي ذكرنا: العمل ورأس المال والموارد الطبيعية والتي هي نادرة نسبياً بطبيعتها، من أجل أن نحصل على أعلى منفعة في ظل أقل التكاليف.  لكن هذا الهدف الذي هو "التوظيف الأمثل"،  لا يمكن تحقيقه مهما عرفنا من نظريات و أدوات علم الاقتصاد، لماذا؟ لأن علوم الاجتماع تدرس و تتعامل مع سلوك البشر، و البشر سلوكهم محدداته كثيرة جداً و تختلف باختلاف البشر، محددات تغيير سلوك البشر يلزم فهمها لفهم سلوكهم، و لهذا فمهما عرفت من نظريات علم الاقتصاد و أدواته، فلا تستطيع أن تحصل على التوظيف الأمثل لموارد لأي مجتمع إذا لم تفهم ذلك المجتمع. و السؤال هو ماذا ينبغي أن تفهم في المجتمع؟ و الجواب هو أن تفهم نظامه الاقتصادي، و ما هو النظام الاقتصادي؟

 

       
   
 
6
 

 

                                      
 
 
         
 
-إذا أردت أن تعرف شكل العلاقة بين النظام الاقتصادي  و علم الاقتصاد- تجد أن علم الاقتصاد مثل قطعة القماش، فالقماش مفيد، مثلاً إذا كان عشرة أمتار في مترين مفيد و لكن لتحصل على الاستفادة القصوى لابد أن تفصله على مقاسك، و لكي تفصله على مقاسك تحتاج إلى خياط يأخذ مقاساتك، و نظريات و أدوات علم الاقتصاد غير مفيدة إلا أن يأتي من يفصلها ليُستفاد منها استفادة قصوى تحقق التوظيف الأمثل، و الذي يفصل على مقاس المجتمع هو نظامه الاقتصادي. و ما هو النظام الاقتصادي؟ هو أسلوب إدارة الموارد أو أساس اتخاذ القرارات الاقتصادية الرئيسية. و ما هي القرارات الاقتصادية الرئيسية؟ هي التي تتعلق بالإنتاج و الاستهلاك و التوزيع، و إن شئت فهي إجابة أسئلة المشكلة التي طرحناها قبل قليل: ماذا ننتج كماً و نوعاً؟ كيف ننتجه؟ من نعطيه إذا أنتجناه؟ و هو ما تختلف فيه الأنظمة الاقتصادية عن بعضها.
          فمهما كان عندي من معرفة بنظريات علم الاقتصاد و أدواته و أنا لا أعرف النظام الاقتصادي لمجتمع ما فلا أستطيع أن أوظف موارد ذلك المجتمع  توظيفاً أمثلاً يحقق أهدافه بكفاءة، و لهذا فعلماء الاجتماع عامة و علماء الاقتصاد خاصة لا يُستَوردون، لأنه مهما عرف أحدهم من نظريات الاقتصاد و هو لا يعرف المجتمع فإنه لا يستطيع أن يوظف الموارد توظيفاً أمثلاً. ما سبق كان عن وظيفة النظام الاقتصادي أما تعريف النظام الاقتصادي: فهو مجموعة العقائد  و القيم و العادات و التقاليد و الظروف التي يتخذ بناءً عليها القرارات الاقتصادية المهمة، و إذا لم تفهم الشقين: معرفة الاقتصاد و نظرياته و معرفة خصائص كل مجتمع فلن تستطيع أن تحقق الكثير.
          دعونا نرى مزيداً من إيضاح هذه النقطة:-

 

 
 

 
 
 
 

         
 
 
 
هذه الأسئلة التي تتعلق بالقرارات الاقتصادية: ماذا ينتج؟ و لمن ينتج؟ و كيف ينتج؟  و هذه الأنظمة الأشْهَر: النظام الاقتصادي الإسلامي، و النظام الاقتصادي الشيوعي، و النظام الاقتصادي الرأسمالي.
          انظروا إلى كيف يحدد ماذا ينتج؟ و هذا السؤال الرئيسي، يعني كيفية تحديد كمية و نوعية السلع التي تنتج في السوق الرأسمالي، و هي تنتج بناءً على ما يسمى عند الاقتصاديين "بالطلب"، بمعنى أن ما يطلب ينتج و ما لا يطلب فلا ينتج. لكن ما هو تعريف  الطلب؟  الطلب له ثلاثة شروط.  و لكي تعتبر أنك تطلب هذه السلعة يجب أن تكون عندك رغبة فيها، و قدرة على أن تدفع الثمن، و استعداد أن تدفع الثمن عندما تتوفر السلعة، فإذا اختل أحد هذه الشروط فلا تنتج لك هذه السلعة مهما كانت ضرورية و مهمة، و إذا توفرت هذه الشروط تُنتج حتى السلع التي لا يقرها العقلاء، و لهذا أنتج في ظل الرأسمالية تحت هذه الشروط سلع ما أنزل الله بها من سلطان، فهي شر محض و فساد عريض. في حين أنه إذا لم يكن لديك ثمن حتى لو كانت عندك حاجة شديدة أو رغبة لا ينتج لك شيء، و لذلك ففي ظل النظام الرأسمالي  كثيراً من سلع الفقراء لا تنتج لأنهم ليست لديهم القدرة على دفع الثمن.
          انظروا إلى النظام الشيوعي: إنه يحدد كمية و نوعية السلع في السوق بناءً على خطة، يجتمع الحزب ثم يتخذ قراراً  بماذا سينتج في السنة القادمة من سلع و خدمات كماً و نوعاً، فعلى سبيل المثال يحدد عدداً معيناً من الطائرات و الدبابات و سرر المستشفيات و كما يحدد حجم القمح و الملابس و هكذا بدون اعتبار للطلب.
          نحن في الإسلام نعترف بالطلب، ما يطلب بشروطه الثلاثة الرغبة في السلعة، و القدرة على دفع الثمن، و الاستعداد لدفع الثمن عند توافر السلعة، فإنه ينتج و لكن نقيده بعدم الضرر لا على الأفراد و لا على المجتمعات، فأنت لست حراً في إلحاق الضرر بالآخرين و لا حتى بنفسك.
          انظروا إلى السؤال الثاني: لمن ينتج؟ فعوائد إنتاج السلع  و الخدمات تُعطَى في ظل الرأسمالية لمن شارك في العمليات الإنتاجية، يعني تُعطَى لمن يملك العمل و رأس المال و الموارد الطبيعية، فيأخذ جميع العوائد، و ليس عليه التزامات في هذه العوائد، لا التزامات لأولاده و لا لزوجته و لا لأبيه و لا لأمه و لا للفقراء أبداً.  فليس في النظام الرأسمالي البحت ما يعطي غير الذي شارك في عمليات الإنتاج بملكية الموارد المشاركة في الإنتاج، و لذلك تجدون في أي نظام رأسمالي و مهما كان غنى البلد الذي يطبق فيه هذا النظام ستجد فيه طبقات ضخمة من الفقراء، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال يوجد حوالي أربعين مليون إنسان تحت خط الفقر،  يعني أنه لا يحصل الواحد منهم على دولار واحد في اليوم، هؤلاء غير المشردين حيث يوجد أربعة أو خمسة ملايين مشرد، لماذا؟ لأنه في الرأسمالية هكذا توزع  عوائد الإنتاج على نسب صغيرة من أفراد المجتمع. كما تعمق هذه الطبقية أنظمة أخرى مثل الربا و كذلك التأمين.
          أما في النظام الاقتصادي الشيوعي البحت: فيوزع العائد بالتساوي على الذي شارك و الذي لم يشارك و هذا خلاف الفطرة، حيث يجب أن تميز المجتهد. و كلكم شهدتم سقوط الشيوعية، و لعل من أهم الأسباب هذا الخطأ في التوزيع و ادعاء المساواة بدون عدالة.
أما في الإسلام فنعم من شارك في الإنتاج له كل العوائد، و لكن عليه التزامات، التزامات النفقة: لزوجته و أولاده و أبوه و أمه، ثم الزكاة لمن لا يستطيع أن يعول نفسه، و بعدها ما تجود به نفسه، ثم يأتي دور بيت مال المسلمين ليضمن الحد الأدنى لكل مسلم.
أما بالنسبة لسؤال كيف ينتج؟ فهو سؤال فني ، فالجميع تقريباً متشابهين في إجابته و إن كان هناك بعض اختلاف ليس هذا مجال بسطه، و لا يهمنا كثيراً لأن ما يهمنا هنا هو هذه الأسئلة التي تعكس الفكر و القيم.  ماذا ينتج؟، مثلاً ما الذي جعلنا ننتج الشماغ؟. فلدينا طلب على حوالي مليوني شماغ في السوق السعودي. و ما الذي جعل الفرنسيون عندما احتلوا الجزائر يحولون العنب إلى خمور و عطور؟ لأن نظامهم الاقتصادي لا يمنعهم من ذلك، و إذا جاء النظام الإسلامي سيرفض هذا. إذاً هذا حلال و هذا حرام، هذا الظرف يسمح وهذا الظرف لا يسمح و كذلك العادات و التقاليد...الخ، فكل هذه جزء من النظام الاقتصادي لكل مجتمع.
إذن خلاصة هذا الكلام: أنك إذا أردت أن تحقق التوظيف الأمثل الذي هو هدف علم الاقتصاد فإنه لا يمكن تحقيقه إلا في ظل النظام الاقتصادي السائد في البلد، و مهما حاولت أن تفعل و أنت خارج عن أطر النظام الاقتصادي السائد فإن الموارد تهدر و لا يتحقق التوظيف الأمثل. دعونا نعطي مثالاً: لو قررنا أن نفتح مدرسة في قرية، و كان المجتمع مسلماً، و بنينا مدرسة واحدة لأن الأولاد  قليلين، و أصبحت المدرسة مختلطة، أي خالفت النظام الاقتصادي فما الذي يحدث؟ الذي يحدث هو أن هناك أهالي لن يرسلوا أولادهم إلى تلك المدرسة لأن هناك اختلاط بين البنات و البنين، كما أن المدرسين لن يدرسوا، فتصبح هذه المؤسسة غير مستَغَلَّه، أي أنه قد أهدرت الموارد التي أرسلت لبناء المدرسة لأنه قد تمت مخالفة النظام لذلك المجتمع المسلم الملتزم بدينه. مثال آخر دائماً أضربه لطلابي في الجامعة، عندنا في الجامعة دورات المياه -أعزكم الله- مقسمة في كل دور و عند كل مدخل و قد تجد في الكلية مائة و خمسة و عشرين أو مائة و ثلاثين وحدة حسب حجم  الكلية، و الدورات الخماسية تقسم بهذا الشكل: إفرنجي، عادي، إفرنجي، عادي، إفرنجي، فإذا دخل وقت صلاة الظهر أو العصر تزاحم الطلاب على الوحدتين العاديتين، و تلك الثلاثة الباقية الإفرنجية لا يكاد يدخلها أحد، و بعضهم قد تفوته الصلاة و هو ينتظر، لماذا لا يدخلون تلك الثلاث؟  و ما المشكلة؟.  الذي صمم المبنى لم ينظر إلى أن الناس لا يستخدمون هذا النوع، ربما لأنه ينجس ثيابهم، أو ربما لأنه ينقل الأمراض، أو ربما لأنه لم يعتادوا عليه، أو لأي سبب آخر، و السبب  لا يهم لكن النتيجة أن ستون بالمائة من الموارد التي ذهبت لبناء دورات المياه ضاعت هدراً، لأننا ما نزلنا إلى فهم ماذا يقبل هؤلاء الناس، و ستبقى مهدرة إلى أن تتهدم الجامعة أو ينتهي عمرها الافتراضي، أو تحول إلى دورات عادية، و إذا حولناها فإنه لابد من تحمل تكاليف إضافية قد تكون باهظة...الخ.

 

8

 
 

و ما هي اقتصاديات الصحة؟:-
          قلنا أن التأمين الصحي ينسب إلى الاقتصاد و بالذات اقتصاديات الصحة فما هي هذه الاقتصاديات؟ إذا كان علم الاقتصاد يدرس التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية بشكل عام فإن اقتصاديات الصحة تبحث في التوظيف الأمثل للموارد في القطاع الصحي لكي تحصل على أعلى عائد من هذه الموارد في ظل أقل التكاليف. و مرة أخرى تذكر أنك إذا خالفت النظام الاقتصادي و أنت توزع موارد القطاع الصحي فإنك تهدرها رغم شدة ندرتها نسبة إلى حاجات المجتمع الصحية، و دعونا نعطي مثالاً: انظروا إلى نسبة ما يذهب من الموارد النادرة لاستقطاب الأيدي العاملة الطبية، فنحن ننزل إلى السوق الدولي لكي نحصل على الأطباء و الممرضين و الممرضات...الخ، فلنقارن بين نتائج التعليم  الطبي و التعليم العادي أو التعليم العام: انظروا كيف تعلم النساء و البنات حتى فاضت أعداد خريجات التعليم العام و حاملات الشهادات العليا حتى أرسلن إلى القرى و الهجر و الصحاري. بينما عجز التعليم الطبي من أن يوفر حتى الممرضة التي لا تحتاج إلا إلى ستة أشهر بعد الثانوية العامة فضلاً عن غيرها، و لا أحد يستطيع أن يزعم أن الحصول على الدكتوراه أسهل من الحصول على دبلوم التمريض، و لكن السبب أن القطاع الصحي عندما أراد أن يدرب درب بناءً على نموذج من خارج المجتمع، بينما التعليم العام استسلم لنظام المجتمع و اعترف به و قدَّره و لم ينازعه.

 

 
 
7

 

ما هو التأمين الصحي؟:-
          التأمين الصحي ليس سوى طريقة لتمويل الخدمات الطبية، و ليس هو النوع الوحيد بل هو أحد أنواع التمويل، بمعنى: من يدفع فاتورة العلاج؟. و هناك أنواع تمويل أخرى للخدمات الطبية منها:
 

  1. أن تتكفل الدولة بجميع تكاليف الخدمات الطبية من مواردها العامة و لا يتكلف غيرها بأي عبء. و ما هي الموارد العامة للدولة؟
    هذه يحددها النظام الاقتصادي الخاص بها، فإذا كانت رأسمالية فأهم مواردها الضرائب. و إن كانت شيوعية فأهم مواردها تأتي من ملكيتها المباشرة للموارد حيث لا تعترف بالملكية الخاصة. و أما في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي فهناك ملكية عامة و للدولة مواردها المعروفة. إذاً فتوفير سداد الفاتورة عن طريق المال العام يعتبر إحدى طرق تمويل الخدمات الطبية.
  2. أن يتكفل المريض بجميع تكاليف علاجه إذا احتاج فعلاً للعلاج فيدفع لمقدم الخدمة حينما يحتاج إليها (Fee for Service)   مثل ما يدفع مقابل السلع و الخدمات الأخرى كالمأكل و المشرب و المسكن و المركب و غير ذلك.
  3. قد يشترك المريض مع رب العمل في تحمل أعباء الخدمات الطبية. كحافز لاستقطاب العمالة الجيدة أو ربما للحفاظ عليهم أو لأنه يلزم به القانون أو النظام. كما يمكن أن يشترك في التمويل المريض و رب العمل و الحكومة في الوقت نفسه.
  4. قد يتكفل القطاع الخيري بجمعياته و المحسنون في تحمل تكاليف علاج الفقراء و المساكين.
  5. قد يكون تأميناً صحياً و هنا يدفع المريض و حده أو مشتركاً مع رب العمل قسطاً سنوياً إلى شركة تأمين ، و عندما يحتاج للخدمة الطبية تقوم شركة التأمين بدفع تكاليف الخدمات التي اتفقت معه على تغطيتها إلى مقدم خدمة و هو جهة ثالثة Third  Party   ليس هو المريض و ليس موظفاً عندها و لكنه قطاع ثالث تختاره شركة التأمين لتقديم الخدمات المحددة للمريض. فهنا يدفع المريض قسطاً سنوياً حتى و لو كان صحيحاً معافى و لا يتوقع أن يحتاج لأية خدمة ربما و لعدة سنوات.
    أما لماذا يسمون شركة التأمين بالطرف الثالث؟ فلأن الطرف الأول هو المريض الذي سيتقبل الخدمة و سيستفيد منها، و الطرف الثاني هو الذي سيقدمها، و هو الطبيب، أو المركز الصحي، أو المستشفى، و الطرف الثالث هو الذي سيدفع الفاتورة، حيث يفصل بين الذي يتلقى الخدمة و بين الذي يقدمها و بين الذي يمولها، و هذا الفصل مقصود و هدفه التخفيف من مشكلات تعارض المصالح بين المريض و شركات التأمين.
    و إذا قرر مجتمع ما أن يتبنى التأمين الصحي فإن هذا الخيار سيؤدي إلى ثورة كبيرة في القطاع الصحي، كيف؟ تحدث  ثورة في عرض الخدمات الطبية حيث ستختلف كماً و نوعاً، و ثورة في الطلب على الخدمات الطبية كماً و نوعاً، كما ستختلف الجودة، بل تحدث ثورة حتى في علاقة الطبيب مع المريض، و ربما سيأتي تفصيل بعض  هذه القضايا قريباً إن شاء الله تعالى.
    و الآن و قبل أن نتطرق إلى خصائص التأمين الصحي، دعونا نلقي بعض الضوء على طبيعة الخدمات الطبية لأن لها طبيعة متميزة عن السلع و الخدمات الأخرى.
     

     

    9

    خصوصية الخدمات الطبية:-

 
 

 
 
 
 
 
 
 
 

تتميز الخدمات الطبية من الناحية الاقتصادية بطبيعة خاصة، و من ثم فهي تتطلب معاملة خاصة فلا يمكن أن تُعامل مثل السلع و الخدمات الأخرى، و عليه  فلا يمكن أن يكون الربح و الخسارة هما المؤثران في توفير هذه الخدمات الإنسانية  و إلا تمكن أصحاب الأموال من ابتزاز الضعفاء و الفقراء في حالة مرضهم و ضعفهم. و أهم نقاط تميزالخدمات الطبية ما يلي:-

  1. إن الخدمات الطبية في جملتها ليست شيئاً كمالياً من شاء أخذه ومن شاء تركه، فهي ليست عطوراً أو أدوات تجميل و لا سيارات فارهة.
  2. إن الناس عادة يأتون إلى الخدمات الطبية في حالة الاضطرار، فقد يأتي الشخص و هو يحمل بين يديه طفلاً فاقداً للوعي، أو امرأة تنزف أو مريضاً مرضاً مزمناً متعباً، فهو أقرب ما يكون إلى حالة الإكراه و الإلجاء التي تجعله الطرف الأضعف في عملية المبادلة فيكون في غير حالته المعتبرة شرعاً من حيث الرضى و ذلك بسبب ضغط و إلحاح الحاجة.
  3. لو قارنّا وضع الخدمات الطبية بالسلع الأخرى لوجدنا الأمر مختلفاً، فالذي يذهبلشراء سيارة مثلاً له معرفة بما يريد و بجودة ما يريد و بضمان منفعة ما سيحصل عليه أو إمكانية استعادة ما دفع إذا لم يكن عالي الجودة أو يحقق المنفعة المطلوبة أو المتوقعة أو الموعودة. أما في حالة الخدمات الطبية ففجوة المعرفة بين المريض و بين من سيقدم له الخدمة كبيرة جداً. فالسيارة لها بائع يريد تسويقها و المشتري يأتي غالباً في حالته المعتبرة شرعاً بدون ضغوط، نقوده في جيبه و عنده معلومات كبيرة و يستطيع أن يحضر معه ميكانيكي خبير و يستطيع أن يستعين بأصدقائه و أقاربه وربما كانت معلوماته تقارب و قد تفوق معلومات البائع، يستطيع أن يفحص و يميز الحقائق من الادعاءات أما المريض فليس له شيئاً من ذلك إذ أن حاجته الصحية ألجأته إلى التعامل مع المجهول بدون أي ضمانات للنتائج فهو يجري خلف وعود ظنية.
  4. إضافة إلى أن العلاج مليء بالظنون و التجارب. فعلم الطب علم مليء بالغموض في النتائج و عدم الدقة، فالآن في بريطانيا يقولون أننا لن ندفع إلا مقابل ما هو ثابت علمياً من أنواع العلاج، ولقد وجدوا أن غير الثابت علمياً يصل إلى حوالي 76%من الممارسات الطبية. أنت لا تعرف هل نقودك التي ذهبت –مهما كثرت- ستعطيك نتيجة أم أنها لن تعطي نتيجة، و خاصة أن الأطباء يأخذون مقدماً وليسوا محاسبين على نتائج أعمالهم، و ليس هناك ضمان لا على الجودة و لا على النتيجة فالأمر ليس مثل ما يحدث عندما تشتري سيارة حيث يعطونك ضمان لمدة أربع أو خمس سنوات، كما يعطونك صيانة، فأنت تحصل على سلعة منضبطة المواصفات، أما في الطب فليس هناك أصلاً تجانس في المخرجات. و أنت ذاهب إلى الطبيب لا تدري إلى أي شيء سينتهي الأمر فقد يقول لك –مثلاً- أنت مجهد اليوم اذهب إلى البيت و ارتح و غداً بإذن الله ستنهض مثل الحصان أو قد يقول لك لا تستطيع الرجوع إلى بيتك يجب أن تدخل إلى غرفة العمليات الآن لإجراء عملية كبيرة.
  5. و تأتي قضية كبيرة أيضاً و هي أن المريض يذهب طالباً للخدمة الطبية من خلال شخص آخر هو الطبيب الذي يقوم بتحديد نوع الخدمة فيطلب نيابة عنه و هذا الطبيب نفسه هو من سيقوم بالبيع أيضاً في الوقت نفسه فهو يقوم بدور مزدوج يشتري بالوكالة عن المريض و يبيع أصالة عن نفسه. فإذا كان للطبيب أهداف أخرى أو تعارضت مصلحته الخاصة مع مصلحة من سيشتري نيابة عنه و سيبيع له أصالة عن نفسه في وقت واحد، أو حين لا يكون هناك نظام صارم يحدد له الحدود التي يعمل في نطاقها و يحمي المرضى، و هو أمر بالغ الصعوبة فإن أموال الناس و ربما حياتهم تصبح معرضة للهدر و الخطر.
    و لك أن تتخيل شخصاً يذهب إلى صاحب معرض سيارات ليقول له اختر لي السيارة  التي تشاء ثم أخبرني عن المبلغ الذي يجب عليّ دفعه ثمناً لها، أليس هذا هو بالضبط ما يفعله الناس عندما يذهب أحدهم إلى الطبيب فيقول له من ماذا أعاني؟ ثم يستسلم للعلاج، ليفاجأ بحجم التكاليف عندما يرى الفاتورة الجاهزة للدفع ليدفع بلا نقاش.
    و الاقتصاديون يعلمون أنه من ضمن النظريات القديمة للمدرسة الكلاسيكية و هي إحدى المدارس الاقتصادية أن هناك نظرية تقول: إن العرض يولد الطلبSupply Creates Demand  و معناها اعرض ما شئت فسيطلبه الناس وقد ثبت عدم صحة هذه النظرية بعد الكساد الكبير منذ الثلاثينيات الميلادية من القرن العشرين، و لكن لسوء الحظ ما زالت هذه النظرية عملياً صحيحة في القطاع الطبي، و لهذا كل ما توسع القطاع الطبي كلما زاد الطلب على خدماته، فكلما فتحت أسرة مستشفيات كلما سرعان ما تملأ، أما لماذا؟ فلأن الذي يطلب هو الذي يعرض، فإذا فقدنا الثقة فيه أصبحت مشكلة خطيرة  نتيجة لتعارض المصالح الاقتصادية و غيرها.
  6. و بسبب هذه الطبيعة الخاصة للخدمات الطبية اهتم البشر منذ أقدم الأزمنة بالجانب الأخلاقي في مهنة الطب فعمدوا إلى تدريس أخلاقيات تلك المهنة للأطباء و أصبحت جزءاً من متطلبات ممارسة المهنة و لا نجد أخلاقيات المهنة تدرس إلا للأطباء.و ذلك لأن الطبيب في حقيقة الأمر مؤتمن على أموال الناس و دمائهم بل و أعراضهم فإذا لم يكن موضع ثقة حقق من وراء عمله مصالحه الخاصة على حساب أموال الآخرين و دمائهم و ربماأعراضهم.
  7. و جود تعاطف كبير من قبل الناس مع كثير من المرضى مما يجعلهم على استعداد للبذل من أجل رفع معاناة الآخرين.
  8. أن الفقر و تدني مستوى الدخل هو أحد أهم عوامل المرض و الحاجة إلى الخدمات الطبية فلا يمكن ربط الحصول على الخدمات الطبية بالدخل و إلا أدى ذلك إلى مآسيٍ و معاناة. و هذه نقطة مهمة بالنسبة للتأمين، أنت لا تذهب و تشتري عطراً و تقول أنا مضطر للعطر لأنه كمالي، و لكن أنت تذهب و تطلب الخدمة و أنت مضطر و في حاجة لها و إذا ربطنا حصولك على الخدمةبقدرتك على الدفع تضررت "فئة الفقراء" لأن الفقر أصلاً أحد أهم أسباب المرض.
  9. من أجل كل ما سبق و غيره من الخصائص يرى الكثيرون أنه يجب معاملة الخدمات الطبية معاملة السلع و الخدمات العامة من حيث تدخل الحكومات لتوفيرها و الإشراف عليها، لأن القطاع الخاص لا يمكن أن يوفر احتياجات المجتمعات كماً و كيفاً خاصة و أنها من المتطلبات الأساسية الضرورية و التي ينبغي أن تكون في مقدمة ما ينفق عليه المال العام.
     
    و بعد التطرق إلى خصائص الخدمات الطبية دعونا نعود مرة أخرى إلى التأمين الصحي و التعرض لبعض التفاصيل.
    علمنا أن التأمين الصحي من الناحية الاقتصادية:  هو نوع من أنواع تمويل الخدمات الطبية، الذي يجري العمل على نشره بشكل مكثف ليحل محل الأنظمة الصحية الموجودة. و الكثيرون يأملون أن يحوي هذا النظام حلولاً  لمشكلات القطاع الصحي المزمنة مثل انخفاض الخدمات كماً و نوعاً و موارداً وإدارة، و الازدحام، و طول الانتظار، و نقص الأطباء و الفنيين و الأجهزة و المرافق...الخ. و لكن الغالبية في الحقيقة لا تعرف الكثير عن حقيقة هذا النوع من الأنظمة، كما يجهلون الآثار المترتبة على تطبيقه.  و الواقع أن له أثراً عظيماً ليس على القطاع الصحي فحسب بل و على قطاعات المجتمع الأخرى.
    بدايةً و نحن نتكلم عن "التأمين الصحي في مجتمع إسلامي" لابد أن نذكر أن هناك أكثر من نوع من أنواع التأمين، فهناك ما يسمونه "التأمين التجاري" و آخر يسمى "التأمين التعاوني" فما الفرق بينهما؟ و ما الذي ساد و انتشر أو سينتشر؟

     

    10

    أولاً: هذه التسمية "التأمين الصحي التعاوني" من أين أتت؟، حيث لم تكن ضمن أدبيات اقتصاديات الصحة و لا أدبيات الطب. لعلها جاءت من قرار هيئة كبار العلماء رقم 51 في 4/4/1397هـ و الذي نصه:-

     

     
     

     

 
 
 

         
 
 
 
إذاً "التأمين التعاوني" من عقود التبرع التي يقصد بها أصالةً: التعاون على تفتيت الأخطار و الاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث و ذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين لا يستهدفون تجارة و لا ربحاً من أموال غيرهم و إنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم و التعاون على تحمل الضرر –و أنا تعمدت أن آخذ هذا القرار من نشرة للأطباء و ليس من نشرة للعلماء كما يبدو المرجع في أسفل القرار- إذاً هذا هو التأمين التعاوني و هذه شروطه.  لكن لسوء الحظ عندما جاء التطبيق نسيت أغلب هذه الشروط، و لم يؤخذ من التأمين التعاوني إلا الاسم. ما هو الدليل؟ و الدليل بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء حول التأمين التجاري و التأمين التعاوني, و هذا نص البيان و مرجعه في أسفله:

 

           
   
   
11
 
 
12
 

 
 
 
 
 
 

         
 
 
 
 
 
 
 
"الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على آله و صحبه أما بعد.. فإنه سبق أن صدر من هيئة كبار العلماء قرار بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه لما فيه من الضرر و المخاطرات العظيمة و أكل أموال الناس بالباطل و هي أمور يحرمها الشرع المطهر و ينهى عنها أشد النهي، كما صدر القرار من هيئة كبار العلماء بجواز التأمين التعاوني و هو الذي يتكون من تبرعات المحسنين و يقصد به مساعدة المحتاج و المنكوب و لا يعود بشيء على المشتركين لا رؤوس أموال و لا أرباح و لا إيعاد استثماري لأن قصد المشترك ثواب الله تعالى و لم يقصد عائداً دنيوياً و ذلك داخل في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان} و في قول النبي      "و الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، و هذا واضح لا إشكال فيه. و لكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات و الشركات تلبيساً على الناس و قلب الحقائق، حيث سموا التأمين التجاري المحرم تأميناً تعاونياً و نسبوا القول في إباحته إلى هيئة كبار العلماء من أجل التغرير بالناس و دعم شركاتهم، و هيئة كبار العلماء بريئة من هذا العمل كل البراءة، لأن قرارها واضح في التفريق بين التأمين التجاري و التأمين التعاوني، و تغيير الاسم لا يغير الحقيقة ولأجل البيان للناس و كشف التلبيس و دحض الكذب و الافتراء صدر هذا البيان.
                                  و صلى الله على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين"...
                                                                         سماحة الإمام عبد العزيز بن رحمه الله...
          هذا صدر بعد عدة سنوات من التطبيق فهل التأمين التعاوني بالشروط التي رأيتموها طبق؟ كلا لم يطبق. و كل الذي ترونه في السوق هو مثل الذي صدر في البيان فيه مخالفات لا نريد أن ندخل في تفاصيلها حتى لا نضيع الوقت، مع أن تفاصيلها مثبتة و معروفة و مشهورة، فيكفينا هذا حول هذه النقطة و من أراد الاستزادة فليرجع إلى الأنظمة المنظمة لمثل هذه الشركات ليتبين أن ما تقوم به هو من النوع التجاري.
          التأمين التعاوني بهذا الوصف لم نر أحداً طبقة فهل له مثال عملي؟ نعم مثاله الوحيد هو صناديق العوائل، أو صناديق القبائل أو المهن، فالأغنياء في العائلة أو في القبيلة يتبرع الواحد منهم و هو لا يقصد ربحاً أو تجارةً، بل يقصد أن يكفل و يتكافل مع  فقراء  أسرته أو قبيلته، فهذا الذي ينطبق عليه التأمين التعاوني و هذا النوع لم يصل في تطبيقه العلمي إلى أكثر من حدود القبيلة أو العائلة أو الأسرة.
          و لكي نحكم على التأمين الصحي السائد من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية و الطبية و نقيس آثاره دعونا نتكلم عن مواصفات النظام الصحي الجيد: من وجهة نظر اقتصاديات الصحة و وجهة نظر المجتمع فعن طريق ما يفترض وجوده في النظام الصحي الجيد يمكن أن نحكم على نظام التأمين الصحي بطريقة موضوعية منصفة.
          عند إرادة تأسيس نظاماً صحياً جديداً أو تغيير النظام الصحي لابد من التأكد من توفر الشروط الضرورية التالية:-

 

       
   
 
13
 

 
 
 
 
 
 

فالمجتمع المسلم و المجتمعات السويَّة كلها يُفترض في نظامها الصحي:-
 

1.أن يقدم خدمة لجميع أفراد المجتمع بدون استثناء و لا تحيز و لا طبقية فلا يُقبل أن يترك بعض أفراد مجتمعها يمرضون أو يموتون أو يعانون.

2.كما يفترض في النظام الصحي الجيد أن  تتوفر فيه جميع مستويات الخدمات الطبية، و ماذا نقصد بها؟ لدينا الخدمات الأولية، و الخدمات الثانوية (خدمات المستشفيات)، و الخدمات التخصصية أضف إليها الوقائية و التوعوية...الخ. فإذا لم تتوفر كل المستويات لكل الناس فهذا شيء ليس جيداً.

3.أيضاً يفترض أن يكون هناك جودة عالية، و نقصد بالخدمات الطبية ذات الجودة العالية: أن تكون الأدوات و الأجهزة ذات تقنية جيدة، و الأطباء مدربين تدريباً جيداً، و مختارين بعناية وفق معايير الكفاءة.

4.و أخيراً يجب أن تكون تكاليف الخدمات سواءً على الأفراد –إن كان لابد أن يتحملها الأفراد- أو على المجتمع تكاليف مقبولة.

هذه الشروط الأربعة أعتقد أنها عادلة و كل المجتمعات يفترض ألا تفرط فيها.
 

انعكاسات هدف شركات التأمين و سلوكياتها على الخدمات الطبية:-

          عندما تتبنى المجتمعات "التأمين الصحي" ما الذي يحدث؟ هل ستتحقق مثل هذه الأهداف و المواصفات للنظام الصحي الجيد؟  لنرى:-

 

       
   
 
14
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

1-أول ما يلاحظ هو أن هدف شركات التأمين من تقديم هذا النظام سيختلف عن هدف المريض و سيختلف عن هدف الدولة أو المجتمع. تعلمون أن المريض عندما يذهب للحصول على الخدمات الطبية أو عندما يدفع مقابلها فإنه يريد رفع معاناته فقط، و ربما يبيع منزله أو ما يملك لهذا السبب. وهذا هو هدف الدولة أيضاً عندما توفر خدمات للمجتمع، أما شركات التأمين فهدفها الوحيد الربح. و هذا الهدف يسبب  مشكلات كبيرة في القطاع الصحي، لماذا؟ لأنكم إذا رجعتم إلى الشروط التي ينبغي أن تتوفر في النظام الصحي الجيد، ستجدون الجودة العالية أحد الأهداف، فإذا كانت الأجهزة الجيدة و الأطباء المميزين تزيد التكاليف فإنها تخفض الأرباح  لأن تعريف الربح هو الإيرادات مطروحاً منها التكاليف، فإذا زادت التكاليف قلت الإيرادات و بالتالي انخفضت الأرباح و تعسر الوصول للهدف، و لهذا تجدون شركات التأمين تختار من الخدمات التي تغطيها الخدمات قليلة الكلفة ضعيفة احتمالية الطلب و الحدوث، أما الخدمات المؤكد أنها ستطلب أي يقينية الحدوث فإن التغطية التأمينية لا تشملها و لو لم ترتفع معاناة المواطن و هذه قضية أساسية.

2-و لذا فإن  أهداف الدولة تتوافق مع أهداف المريض نفسه و الجمعية الخيرية أما شركة التأمين  فتهدف بالدرجة الأولى إلى زيادة أرباحها، أي تحقق هدفها عندما تتهرب من أكبر خدمات ممكنة حتى لو كانت في منتهى الضرورية و يحتاجها المرضى بشدة. و لهذا فشركات التأمين تتهرب بشتى الطرق من دفع تكاليف علاج  المرضى و لذا نجدها من أكبر المستفيدين من خدمات المحامين و القانونيين سواء لكتابة العقود صعبة الفهم كثيرة الثغرات أو لإيجاد ثغرات تعفي الشركة من التزاماتها أمام ذلك المريض الضعيف.

3-ثم هي تختار الأطباء و المستشفيات ليس بمعيار الكفاءة و لكنها تختار من يثبت أن فواتيرهم أقل، و لهذا فإنه لا يمكن  تقديم خدمة جيدة للجميع في ظل التأمين، لأن الخدمات الجيدة و الأطباء المخلصون ستكون تكاليفهم عالية مما يخفض من أرباح شركات التأمين مما يؤدي إلى استبعادهم. و تتوجه شركات التأمين إلى اختيار ما يخفض لها التكاليف من خلال الأساليب الإدارية أو في اختيار الأطباء أو المستشفيات أو الأدوية و طرق العلاج، بعيداً عن معايير الجودة و لو أدى ذلك إلى زيادة معاناة المريض. فقد يستمر المريض على علاج دوائي لمدة طويلة أو بشكل دائم بينما هو يحتاج إلى تدخل جراحي و ذلك لأن الأخير سوف يؤدي إلى مضاعفة تكاليف العلاج، فيُترك يعاني من المرض ربما لسنوات عديدة من أجل التوفير في فاتورة التأمين.

4-ثم هي تستبعد كبار السن حيث يستبعد التأمين الصحي أو ما يسمى بالضمان الصحي من تجاوز عمره 65 سنة مع أنه معلوم أنه بعد هذه السن تزيد حاجته إلى العلاج كما يستبعد التأمين ذوي الأمراض المزمنة و العاهات العقلية و العصبية و النفسية و مرضى الحوادث و غيرهم الذين يستبعدون لأن هدفها الربح و ليس رفع المعاناة. إذاً فإن ما يقدم و يعرض من خدمات طبية تحت مظلة التأمين يعتبر ناقصاً حيث لا يغطي الكثير من احتياجات المجتمع (انظر قائمة الأمراض التي يستثنيها التأمين المحلي) والتي ستأتي لاحقاً.

5-ثم هي تلزم المريض بدفع جزء من الفاتورة عند كل زيارة لطبيب (وهو ما يسمى بـ  "الاقتطاع") و معناه أنه يجب على المريض المؤمن عليه أن يدفع ما يصل إلى 20% من تكلفة الطبيب و هي نسبة قد تصل إلى ربع دخل العامل البسيط و هدفها الحد من الطلب على الخدمة، و ينتج عن ذلك انخفاض طلب الناس على الخدمات الطبية حتى الضروري منها، خاصة الفقراء عند ثقل هذه النسبة عليهم. و لهذا فالفقير المدقع إذا ألزم، سيكون بين أمرين أحلاهما مر، إما أن يبقى دون خدمة ضرورية أو أن يضحي بقوت أولاده إن كان عنده مقابل هذا الاستقطاع أو قسط التأمين. و هذا قيد يحد من طلب الناس، خاصة الفقراء فيحجمون عن طلب الخدمة، خاصة عندما لا يكون عند الشخص وعي بحجم الخطر الصحي فلا يتقدم لطلب الخدمة الطبية إلا و قد استفحل الأمر و صعب علاجه، و في هذا هدر اقتصادي ضخم و معاناة شديدة.

6-ثم إن شركة التأمين تجعل سقفاً لأعلى مبلغ تدفعه فلا تتجاوزه مهما كان العلاج ضرورياً بعده.

7-إلا أن من أهم القضايا هنا هي أن التأمين يربط بين حصول المريض على الخدمات الطبية التي يحتاج أو قد يحتاج إليها و دخله فهي تميز بين الناس بناءً على دخولهم فمن لا يستطيع دفع الأقساط فليس له أمل في الحصول على الخدمة و لهذا  نرى في الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي الدولة الأولى في التأمين التجاري في العالم،  حوالي أربعين مليوناً (40.000.000) من البشر هم أفقر من أن يحصلوا على أي تغطية تأمينية بسبب الفقر و أربعين مليوناً آخرين أرشد اقتصادياً من أن يشتروا بوليصة تأمين (لأن التأمين الصحي اختياري عندهم) و لو كان مجتمعهم إسلامياً لربما وجد أربعين مليوناً آخرين يرفضون التأمين للأسباب الأخرى. أما لماذا الكلام عم أمريكا فلأنها الدولة الأولى في التأمين الصحي الأكثر شبهاً بما هو موجود الآن في الساحة. إذاً فالتأمين الصحي نظام يُوجِد طبقات في المجتمع تستبعد من الخدمات الطبية في حين أنها أشد طبقات المجتمع حاجة إلى هذه الخدمات لأن الفقر وحده أحد أهم أسباب المرض. و قد لا تستبعدهم كلياً فتقدم لهم من الخدمات ما يوازي قدرتهم على الدفع و لكن يبقى أنها تستبعدهم من الخدمات الحقيقية و الجيدة و ذات التكاليف العالية التي يحصل عليها الأغنياء، إذاً هو نظام غير عادل، لأن الفقير سيئ التغذية و المسكن و الملبس و البيئة و يكون عرضة للأخطار الصحية المختلفة.  و هذه الطبقية قد تقبلها بعض المجتمعات الرأسمالية إلا أن المجتمعات السَوِيَّة لا يمكن أن تترك ضعفاءها و فقراءها عرضة لما يهدد حياتهم و فيها من يستمتع بالغنى و الرفاهية و مختلف  وسائل الترفيه.  و لهذا نرى  بعض أكبر الدول الرأسمالية مثل بريطانيا، قد رفض عقلاؤها منذ القدم ربط دخول الناس بمستوى الخدمات الطبية التي يحصلون عليها و جعلوا الحاجة الفعلية للخدمات الطبية هي التي تحدد كمَّ الخدمات الطبية و نوعها فقط،  و لهذا فهم يقدمون خدمات متساوية لكل الناس حتى الأجانب المقيمين بغض النظر عن دخولهم في ظل ما يعرف بـ NHS  أي نظام خدمات الصحة البريطانية ((National Health Services  حيث لا  يستبعد الفقراء و لا غيرهم.

8-و في ما يتعلق بشكل العلاقة بين الطبيب والمريض فإن الأطباء في أغلب  أنحاء الأرض يؤدون القَسَم بأَن يكونوا وكلاء أمناء يخدمون المريض و يجعلون مصلحته هي الأولى و لكن شركات التأمين تضغط على ذمم الأطباء و ضمائرهم ليعملوا لحسابها، فيصفوا العلاج والدواء الأرخص ولو كان قليل الجدوى ويستبعدوا بعض الفحوصات الطبية الضرورية لأنها مكلفة. و مما يزيد الأمر سوأً قيام أصحاب المستشفيات كذلك بالضغط على الأطباء للمحافظة على العقود مع شركات التأمين فيكون الضغط على الأطباء مزدوجاً, ضغط المستشفى وضغط شركة التأمين الذي قد يكون مباشراً, وفي النهاية فالضحية هو المريض و ذمة الطبيب.

فالحصيلة التي يمكن توقعها هي أن التأمين يجعل الطبيب بدلاً من أن يعمل لمصلحة المريض ووكيلاً عنه كما هو متوقع وما يوحيه عليه الضمير والخلق والدين, يجعله التأمين وكيلاً لشركة التأمين يبحث لها عن الربح عن طريق اختيار أرخص الأدوية وطرق العلاج ولو كان مضراً للمريض وعلى حساب صحته لئلا تخسر شركة التأمين ولئلا تفقد مستشفاه أو عيادته عقدها لمعالجة من تحولهم إليها شركة التأمين. فإذا ارتفعت التكاليف غضبت شركة التأمين و أنهت عقدها مع المستشفى أو الطبيب (ليفقد أحدهم أهم مصادره المالية) وذهبت إلى مستشفىً آخر أرخص بغض النظر عن مستواه ونفعه للمرضى. و من المعلوم للعاملين في الميدان أن شركات التأمين تسلم لمقدمي الخدمة قائمة بالأدوية التي ترفض الدفع عنها و تسلم لهم قائمة أخرى بالأدوية الرخيصة,  وهذه قضية خطيرة تخرج الطب من الإنسانية وتًفقد الثقة بين المريض والطبيب و الذي هو في الأصل رجل ثقة مؤتمن يفترض أن يبحث عن مصلحة المريض فحسب ويجعلها فوق كل اعتبار حيث قد أقسم القسم الطبي الشهير أن يعمل لمصلحة المريض فقط وليس لمصلحته هو ولا مصلحة أي طرف آخر لا شركة تأمين ولا مستشفى ولا غيرها, هذه العلاقة الإنسانية الرفيعة يهزها نظام التأمين بشدة وعنف.
     9-  كما أن التأمين يرفع تكاليف الخدمات الطبية ليس على المريض فحسب بل على الحكومات و  المجتمع ككل حتى على من لا تشملهم التغطية التأمينية لأنه يرفع أسعار الخدمات الطبية بشكل عام و هذه قضية مهمة حيث يتوهم البعض أن التأمين يخفض التكاليف و الأسعار و الذي يحدث هو العكس فمثلاً نجد أن 11% من الناتج القومي الأمريكي _و أمريكا هي أم التأمين الصحي التجاري_  ينفق على الخدمات الطبية رغم هزال تلك الخدمات و طبقيتها، بينما لا يذهب إلى الخدمات الطبية إلا حوالي 7% من الناتج القومي البريطاني مع أن بريطانيا كانت تقدم الخدمات الطبية للجميع بلا استثناء حتى للأجانب و تقدم جميع مستويات الخدمة و ذلك أن نظامهم كان يهدف إلى عدم ربط دخل الشخص مع الخدمة الطبية التي يحتاجها.
10- كما أن التأمين الصحي لن يؤدي إلى تخفيف الأعباء الإدارية بل سيزيدها مع الأعباء الرقابية و الإشرافية على الدولة, حيث ستترك لها شركات التأمين الحالات المستعصية والمكلفة والتي عادة ينفق عليها حوالي ثلاثة أرباع ميزانيات وزارات الصحة في العالم. و ستوجد لها مشكلات جديدة تحتاج إلى نظام قضاء ليحكم فيها. ولن تستطيع التخلي عن كل هذه المسؤوليات ولابد لها أن تضطلع بها. و بالطبع لا يمكن إلزام المجتمع بأنظمة ثم العجز عن إعطائه بعض حقه في ظلها بسبب القصور الفني أو الإداري أو الإشرافي أو الرقابي أو النظامي. 
و بعد فهذه آثار متوقعة لأنها تحدث وحدثت في ظل التأمين, فهل مع كل هذا يمكن أن يتوقع للتأمين الصحي أن يكون نظاماً صحياً يخدم الأهداف المتوقعة منه سواءً للمريض أو الحكومة أو المجتمع ؟!.
كما أنه من المتوقع حدوث آثارٌ أكثر سلبية في المجتمعات الإسلامية من جراء تطبيق التأمين الصحي، و ذلك لأن التجربة التاريخية للمجتمعات التي طبقت التأمين تفيد أن مثل هذه السلبيات قد حدثت عندها رغم أنها استكملت أولاً تأسيس أنظمة و إجراءات و مؤسسات قوية قبل التطبيق و هي ما تفتقده الكثير من الدول الأخرى قليلة الخبرة في مجال الخدمات الطبية. و هذه الإجراءات بالتأكيد قد خففت من الآثار السلبية للتأمين الصحي و لكنها لم تمنع حدوث الآثار السابقة و من هذه الإجراءات ما يلي:-

  1. وجود نظام تسعير للخدمات الطبية لمنع تلاعب المستشفيات وشركات التأمين بالأسعار, فيعرف المريض والطبيب والمستشفى و جميع أفراد المجتمع بأن هناك سعر محدد ثابت لكل خدمة، حيث أنه بدون سعر مدروس و محدد بشكل صحيح وواضح لم يكن بالإمكان أن يطبق التأمين؟.
  2. تحديد الإجراءات الطبية لكل حالة مرضية حيث لا تترك الإجراءات للاجتهادات المطلقة غير المبررة علمياً, فمثلاً لا يأتي رجل يشتكي من مغص في بطنه فيطلب منه منظار للمعدة و منظار للأمعاء و فحوصات مخبرية و نحو ذلك, مما يرفع كلفة العلاج بلا مبرر منطقي. إذاً فقد تم تثبيت وتحديد الإجراءات بدقة مثل ما يحدث في بعض البلدان ومنها اليابان حيث يَحِق لكل شخص أن يطلب العلاج في أي مركزٍ صحي أو عند أي طبيب ثم يحال الملف بالتشخيص والعلاج إلى لجنة طبية فنية تتأكد أن الإجراء الطبي الذي قدم لهذا المريض هو وفقاً للمعايير والإجراءات الطبية المعتمدة و بعدها يحال إلى لجنة مالية اقتصادية تقول إن هذا الإجراء الذي كان صحيحاً وفق الإجراءات الطبية يستحق هذا المبلغ، وبعدها يصرف المبلغ إلى المستشفى أو الطبيب الذي قدم الخدمة. وفي هذا فصل بين مصلحة الطبيب المالية المباشرة ومصلحة المريض الصحية والمالية.
  3. وجود نظام فني طبي رقابي كفء يضبط المخالفات ويمنع حدوثها وهو ما تفتقده الكثير من الدول البائسة فلا يتوفر لديها أجهزة رقابية فنية قادرة على تشخيص وضبط المخالفات الطبية والفنيةلشركات التأمين والمستشفيات بحيث يعطى لكل ذي حق حقه النظامي، فعلى سبيل المثال، عند توفر الأنظمة و الأجهزة، يحال مئات الأطباء الأمريكان سنوياً إلى القضاء بسبب المخالفات في ظل التأمين.
    و عليه فإن الدولة التي لا يوجد لديها ما يماثل ذلك تتحول الأوضاع فيها إلى غابة يفترس فيها كل قوي الأضعف.
  4. وجود نظام قضائي عادل وموثوق به لفصل المنازعات الضخمة التي من المتوقع أن يولدها التأمين بين الشركات والمستشفيات من جهة وبين الشركات والمرضى من جهة وبين المستشفيات والمرضى والأطباء...الخ. خاصة والتأمين الصحي لا تقتصر مشكلاته على الأموال بل يتضمن أيضاً مشكلات في الأنفس والإعاقات و فقد الأعضاء وما إلى ذلك.
    فإذا  لم تكن الدول مستعدة أن تعطي الطرف الأضعف وهو المريض حقه فلا يمكن عقلاً ولا منطقاً ولا خلقاً أن يجبر على نظام وهو لا يستطيع في ظله أن يحصل على بعض حقه بطريق مشروع.
    و السؤال الذي يطرح نفسه الآن :- هل من المصلحة تطبيق التأمين الصحي على الرغم من عدم وجود الأنظمة و المؤسسات التي ساهمت في تخفيف مضاعفاته و تبعاته في الدول الأخرى  و على الرغم من كل هذه الآثار السيئة؟!.
    قد تسهل علينا الإجابة إذا نظرنا إلى ما تتضمنه وثيقة التأمين الصحي الحالية و ما تستثنيه من خدمات طبية.
                                                                                                   
    ما تتضمنه "وثيقة التأمين" التي تحكم العلاقة بين المريض و شركة التأمين:-
    علماً أن هذه الوثيقة قد صدرت مع اللائحة التنفيذية بقرار من وزير الصحة بتاريخ 27/3/1423هـ.

     

           
       
     
    15
     

     
     
     
     
     
     
     
     

أولاً تحدد اليوم و الشهر لبدء التغطية التأمينية و نهايتها و بدقة شديدة لا علاقة لها بمدة علاج المرض. كما تستبعد من يزيد عمره عن 65 سنة. و تستبعد الأبناء إذا زادت أعمارهم عن 18 سنة كي يدفعوا أقساطاً جديدة. تحدد الحد الأقصى للمبلغ الذي يدفع لعلاج الشخص و إذا زادت التكاليف عن ذلك المبلغ فلن يعالج. كما أن هناك نظام اقتطاع يؤدي إلى خفض الطلب على العلاج.
و هناك قائمة طويلة لما تستبعده الوثيقة من خدمات طبية فلا تغطية:- 
 
 

 

       
 
16
   
 

 
 

         
 
 
 
 
 
 

 

17

مثلاً الإصابات المتعمدة، فإذا كان طفلاً أو مجنوناً ماذا يفعل به؟!. أيضاً إساءة استعمال الأدوية و المنشطات و المهدئات و الكحول و المخدرات و ما شابه ذلك. و الجراحة أو المعالجة التجميلية –هذا موجود عندهم بالنص-  بعض الجراحات التجميلية ضروري. و الفحوصات الشاملة –و هذه تسبق أي عملية لكن لا يغطونها-. و اللقاحات و هذه لا يغطونها لأنها مؤكدة الحدوث، فكل طفل يولد يجب أن يأخذ سلسلة من اللقاحات فهذه لا تغطى. و العقاقير و الأدوية كلها بأنواعها. و الوسائل الوقائية فهم لا يهتمون بالوقاية فأكثر الذي يركزون عليه هي الخدمات الطبية الثانوية. كذلك لا يغطون ما يتلقاه الشخص بدون مقابل فإذا كانت المستشفيات الحكومية تعطيك خدمة مجانية فإنهم لا يغطونها لك. و أي علة أو إصابة مهنية أيضاً.

 

 
 

 

 
 
 
 
 
 
 
          أيضاً لا يغطون الأمراض التناسلية. و الأمراض التي تنتقل بسبب الاتصال الجنسي بدون تحديد لسبب الإصابة. و فيروس نقص المناعة. و زرع الأسنان. و تركيب الأسنان الصناعية. و تركيب الجسور للأسنان. و تقويم الأسنان. و مصاريف نقل المريض من غير سيارة الإسعاف المرخصة، فهل يترك حتى تأتي سيارة الإسعاف و لو مات؟!. و تساقط الشعر.
 

 

 
 

 

         

 

18

 
 
 
 
 
 

و صلع الشعر. و المعالجة النفسية. و الاضطرابات العصبية. و اختبارات الحساسية. و تنظيم النسل. و حصول النسل. و العقم. و العجز الجنسي. و نقص الخصوبة.

 

       
 
19
   
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 

          و كذلك التلقيح في الأنابيب. و التلقيح الصناعي. و أي ضعف قبل بداية الوثيقة لا يحسبونه. و التشوه الخلقي. و البثور. و السمنة. و البدانة. و زرع البدائل الصناعية للأعضاء.

 

       
 
20
   
 

 
 
 
 
 
 

         
 
زرع النخاع. و المشكلات الصحية أثناء الحروب. و المشكلات الصحية أثناء الغزو. و المشكلات الصحية أثناء أعمال العدوان الأجنبي. و المشكلات الصحية أثناء الحرب الأهلية. و المشكلات الصحية أثناء العدوان. و الإشعاع النووي و التلوث. و ما يتعلق بإصابات السموم. و إصابات المتفجرات.

 

       
   
 
21
 

 
 
 
 
 
 
 

         
خدمة القوات المسلحة المشاركة. و المشاركة في أعمال القوات المسلحة. و خدمة الشرطة. و المشاركة في أعمال الشرطة. و الشغب و ما شابهه. و الإرهاب و ما شابهه. و الإضراب و ما شابهه...الخ، فهذا يكفي.
          إذاً، هذا ليس تأميناً تعاونياً خاصة و أنه إلزامي فلا يمكن أن يكون تعاونياً و إلزامياً في الوقت نفسه. و إن أردت التأكد فارجع إلى المادة الثالثة عشرة من نموذج النظام الأساسي لشركات التأمين لتجدها تنص على أنه: "يجوز للشركة بعد الحصول على موافقة الجهات المختصة أن تصدر بالقروض التي تعقدها سندات متساوية القيمة و قابلة للتداول و غير قابلة للتجزئة" انتهى و معلوم أنها قروض بفوائد ربوية.
 
التأمين الصحي و مبرراته المزعومة:-
 
يذكر بعض المتحمسين للتأمين الصحي عدداً من المبررات فدعونا نناقش طرفاً منها:-
أولاً:-
 يقال أن التأمين الصحي يسهم في رفع كفاءة القطاع الصحي الفنية و الطبية. و للجواب على هذا الوهم نقول: كيف للتأمين الصحي أن يرفع الكفاءة الفنية و الطبية و قد رأينا أنه:-

  1. يقلل من الخدمات المعروضة لأنه يستبعد الخدمات التي تكلف شركات التأمين أكثر، إذاً هو لا يقدم كل أنواع الخدمات الأولية و الثانوية و المتخصصة و الوقائية و التوعية الصحية، و بذلك يسهم في خفض المستوى الصحي للمجتمع.
  2. يقلل من الطلب، لأن الشخص المؤمن عليه لا يستطيع أن يطلب من مقدمي الخدمة خدمة لا يغطيها التأمين و إن فعل فستكلفه أضعاف سعرها المعتاد و ما قد لا يستطيع أن يدفعه لأن نظام التأمين من المتوقع أن يرفع المستوى العام لأسعار الخدمات الطبية سواء المؤمن عليها أو غيرها. إضافة إلى أنه بسبب "نظام الاقتطاع"يجبر المريض على دفع نسبةٍ إضافية من فاتورة العلاج، قد تصل إلى ربع دخل العامل البسيط و هذا يسهم مباشرة في خفض المستوى الصحي و المستفيد الوحيد منها شركة التأمين.
  3. كما أنه يهز ثقة المريض في المستشفى والطبيب و يضغط على ذمة الطبيب ليعمل لمصلحة شركة التأمين بدلاً من أن يعمل كما هو مفترض لمصلحة المريض و هو ما يمليه عليه ضميره و أخلاقيات المهنة و خلقه و دينه و العهد الذي التزم به، حيث تطلب شركات التأمين من مقدمي الخدمة عدم تحويل المرضى إلى المستشفيات إلا في الحالات الحرجة و إلا كانوا عرضة لإلغاء العقود. بل إن الحالات الحرجة الطارئة قد تنتظر في غرف الإسعاف مدداً طويلة انتظاراً لموافقة شركة التأمين على العلاج. و لك أن تتخيل ما الذي سيحدث للمريض إذا لم توافق.‍‍‍‍‍‍‍
    إذاً أين الكفاءة الفنية و الجودة المزعومة المبنية على أنظمة اعتماد المستشفيات إذا كان  النظام سيقود إلى  تجريب كل الأدوية الممكنة على المريض المسكين قبل أن يحال إلى الاستشاري أو إلى الجراح أو إلى أي علاج متقدم مكلف، هذا إن كان سيحال فعلاً.
  4. و من جهة أخرى يتم قياس كفاءة القطاع و النظام الصحيبمعايير دقيقة مثل نسبة الوفيات ونسبة الأمراض و معدل القضاء عليها و رضا المرضى ووقت انتظار المريض و نحوها. و كما مر سابقاً نجد أن كل واحد من هذه المعايير لا يتحسن في ظل التأمين و السبب في ذلك أن شركة التأمين تهدف إلى الربح عن طريق خفض ما ينفق على الصحة فقد يصل المريض إلى حالة متقدمة من المرض قبل أن يطلب العلاج ثم إذا طلب العلاج لا يذهب به إلى الأطباء و الأدوية و المراكز الصحية و طرق العلاج و إنما سيجرب فيه كل دواء رخيص لعله يمكن من خلاله تفادي طرق العلاج المكلفة و لو كانت أنجح و أكثر نفعاً مؤكداً.
  5. قد يقال إن التأمين مفيد لأنه يمكن أن يكون إلزامياً على الجميع بدون استثناء هذا نظرياً أما عملياً فإن ما سيغطيه التأمين العام الإلزامي هو فقط ما يسمى بالخدمات الأساسية وهي لا تكفي كل الاحتياجات ثم يقدم بعدها خدمات متميزة أعلى جودة وفي مراكز طبية أفضل لأولئك الذين يستطيعون دفع أقساط إضافية أعلى وهذه الأقساط عادةً ليست في متناول الفقراء وربما حتى ذوي الدخول المتوسطة خاصةً مع كبر حجم الأسرة، حيث تحتاج إلى مبالغ ضخمة إضافة إلى دفع أقساط تلك الخدمات الأساسية الإلزامية.
    وعليه فإن التمييز والطبقية حادثة لا محالة فتحول أفضل الخدمات و الأجهزة والأطباء إلى طبقة صغيرة من أفراد المجتمع و يترك أولئك الضعفاء و الفقراء  لمراكز متدنية الخدمات كثيرة الازدحام منخفضة التكاليف و التي تحيل عليها شركات التأمين.
  6. كما أن التأمين لا يغطي إلا الأمراض التي يضعف احتمال وقوعها أما الأخطار المحققة فلا يمكن أن يغطيها التأمين بل يرفضها, فمثلاً من كان عمره فوق 65 سنةفإنه يستبعد من التأمين مع أنه في أشد الحاجة للخدمات الطبية وكذلك أصحاب الأمراض الخطيرة و المزمنة و المستعصية بل إن التطعيمات للأطفال -على سبيل المثال- ، تُستبعد من التأمين رغم عظم منفعتها لأنها محققة الوقوع, إذ لابد لكل طفلمن تطعيم لا محالة، و في ذلك خسارة محققة لشركات التأمين فتستبعدها إن استطاعت, لأن هدفها الربح لا منفعة الناس.
     
    فأين هي الكفاءة الطبية و الفنية المزعومة؟!.
     
              ثانياً:-
    يقال إن التأمين الصحي يخفض تكاليف العلاج و يقلل موارد المجتمع التي تذهب إلى القطاع الصحي، أي أنه يرفع الكفاءة الاقتصادية للقطاع الصحي بحيث يحصل المجتمع على أعلى إنتاج بأقل التكاليف أو أنه يوظف موارد القطاع الصحي التوظيف الأمثل.
    و هذا الوهم أيضاً ليس صحيحاً للأسباب التالية:-
     
  7. إذا كان الهدف من التأمينتخفيف الأعباء المالية والإدارية على الدولة فإن الدولة لن تستطيع تخفيف أعباءها بالشكل الذي يبرر التأمين،خاصةً وإن عليها التزامات أمام مواطنيها فهي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن ضروريات حياتهم لأنه سيبقى لها المستبعدون من شركات التأمين الذين لا يحققون لها أرباحاً، من المسنين والمعاقين وضحايا الحوادث والحروب والأمراض المزمنة و العقلية و المرضى النفسيينو غيرهم.ولا يمكن لأي دولة أن تتخلى عن الأعباء المالية والإدارية و الرقابة و الإشراف على مثل هذه الحالات بشكل خاص أو على القطاع الصحي بشكل عام خاصة في ظل التأمين مهما كلف الأمر. ثم ستواجه في ظل التأمين مشكلات أخرى لا خبرة لها فيها و لابد لها من أن تتعامل معها. خاصةو أن هؤلاءالذينستتخلى عنهم شركات التأمين يُكلفونالدول –عادةً-حوالي ثلاثة أرباع ميزانية القطاع الصحي كله في حين تتولى شركات التأمين أولئك الذين هم في العادة لا يحتاجون أي نوع من الخدمة الطبية لسنوات عديدة لصغر سنهم و لاستبعادها ما يكلف من خدماتهم.
  8. كما أن التأمين يؤدي إلى رفع تكاليف الخدمات الطبية بالنسبة للمجتمع ككل، فكل من تستبعدهم شركات التأمين لأن تكاليف علاجهم عالية، فلابد للحكومات أن تعالجهم ولا تتركهم ليموتوا أو يعانوا وهذه الفئة عادةً تستهلك حصة الأسد من ميزانيات وزارات الصحة في العالم، فإذا جمعت تكاليف علاج هؤلاء مع مليارات أقساط التأمين مع ارتفاع أسعار جميع خدمات القطاع الصحي المتوقعة صارت الخسارة على المجتمع فادحة, وحملاً باهضاً. أضف إلى ذلك دفع الناس المؤمنين مقابل الخدمات التي ترفض تغطيتها شركات التأمين لأن شركات التأمين تنتقي الأصحاء كما تنتقي الخدمات قليلة كلفة العلاج و ضئيلة احتمالية الوقوع. ولهذا نرى دولة التأمين الأولى الولايات المتحدة الأمريكية تخسر على الصحة حوالي 11% من ناتجها القومي بينما تخسر دولة مثل بريطانيا أقل من ذلك بحوالي الثلث رغم أنها تعالج جميع مواطنيها والمقيمين الأجانب فيها بدون استثناء من مواردها العامة, ودون ربط بين دخولهم وعلاجهم. إذاً فالتأمين يرفع تكاليف الخدمات الطبية على المجتمع ولا يخفضها كما يتوقع البعض.
  9. إن مبالغ التأمين الضخمة و التي تبلغ المليارات و تفوق أضعاف ميزانيات وزارات الصحة يتسرب أكثرها خارج الاقتصاد على شكل ما يسمى بـ "إعادة التأمين" حيث تقوم شركات التأمين بإعادةالتأمين عند شركات عالمية أكبر،مما يسرب هذه المبالغ خارج الاقتصاد المحلي وكلما كبر المبلغ كلما أضعف القدرة الاقتصادية كما يعرف الاقتصاديون،خاصةً و أنه من المتوقع دخول الشركات العالمية بقوة في ظل العولمة لتحصل على حصة الأسد من هذه المليارات وستنتهي الشركات الوطنية المحلية إلى واجهة مكاتب صغيرة تأخذ عمولة بسيطة لصالح الشركات الضخمة.
  10. وإن قلنا جدلاً أن التأمين سيقلل التكاليف لعلاج بعض الحالات فإن هذا الوفر لن يكون عائداً على المريض نفسه ولا على القطاع الصحي العام بل سيكون عائداً لشركات التأمين وأرباحها التي تسربها عادةً إلى خارج الاقتصاد. فإذا كان هناك توفير وزيادة أرباح فلا يدخل جيب المريض منها شيء و لا خزانة الحكومة ولا موارد القطاع الصحي و إنما يذهب إلى التجار وشركات التأمين، علماً بأنه جاء على حساب صحة المريض وجودة الخدمات المقدمة له بدلاً من أن يذهب لرفع مستوى صحة أفراد المجتمع. فلا يستفيد من التأمين في الحقيقة إلا أصحاب شركات التأمين في الداخل أو الخارج و شركات "إعادة التأمين"، الموجودة كلها في الخارج.
     
    نخلص من كل ذلك إلى أن المشكلة هي في أن التأمين الصحي لا يحقق هدف المريض في توفير خدمة طبية  تتميز بالجودة و السعر المناسب و الزمان و المكان الملائمين. كما أنها لا تحقق هدف الحكومات في توفير الرعاية الصحية لجميع أفراد المجتمع بعدالة و بجودة عالية ترفع معاناتهم(انظر النظام الأساسي للحكم).  وليس من أهداف التأمين  تحقيق أهداف المجتمعات في توفير رعاية لكل فرد مهما اختلف مستوى دخله أو احتياجاته الصحية. و المستفيد الوحيد حقيقة من نظام التأمين هو شركات التأمين لأنها تحقق هدفها الوحيد و هو الربح فهي تفرض ضريبة على كل من تستطيع أن تفرضها عليه صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى فقيراً أو غنياً ثم هي تختار الأصحاء و الذين احتمالية طلبهم أو حاجتهم للخدمات الطبية منخفضة ثم هي تعلم أن نسبة صغيرة من هؤلاء هم من سيطلبون أو يحتاجون الخدمات الطبية ثم هي تعمل بشتى الطرق للتهرب من التزاماتها عند احتياج الشخص للخدمة الطبية فتنتهي وقد حققت هدفها و هو الربح على حساب أهداف المجتمع و الحكومة و الأطباء و المرضى و عادت بأموال طائلة كان من المفترض أن تذهب إلى القطاع الصحي ذي الموارد الشحيحة عادةً. كما أنها تعلم أنه غالباً فيما بين السنة الثانية أو الثالثة من العمر إلى حدود الأربعين سنة لا يحتاج الناس عادة لأية خدمات طبية تذكر فإذا استطاعت أن تفرض على الجميع أو على أغلب هؤلاء الأصحاء أقساط التأمين حتى لو دفعت في ما يبدو مبالغ كبيرة للبعض فإنها تنتهي بالحصول على مبالغ ضخمة للغاية بدون عناء لأن شركات التأمين تصنف من شركات الوساطة المالية حيث تأخذ أموالاً و تدفع أموالاً و لا تقدم أية خدمات طبية على الإطلاق بل إن الكثير من الدول تلزم شركات التأمين بأن لا تقدم أية خدمة طبية فهي تأخذ من المريض أو من الحكومة أو رب العمل أو منهم مجتمعين ثم تدفع لمقدم الخدمة (الذي هو الطبيب أو المستشفى) الذي تختاره هي وفق شروط تحددها هي بدقة. فهي لا تبني مراكز صحية و لا عيادات كما أنها تستبعد المستشفيات و الأطباء الذين لا يحققون لها أرباحاً و لو كانوا أجود الأطباء و أفضلهم في عملهم و تفانياً في خدمة المريض لأن هؤلاء المخلصين يقدمون مصلحة المريض على مصلحة شركة التأمين و هذا يناقض هدف الربح. إذاً نعود إلى السؤال الأول ما هو الهدف الحقيقي لتبني التأمين إذا لم يكن لمصلحة المريض وتحقيق أهداف الحكومات في توفير رعاية طبية جيدة و عادلة لجميع أفراد المجتمع للمواطنين و غيرهم.

     

    22

    إذاً فالتأمين الصحي لا يرفع لا الكفاءة الطبية و لا الاقتصادية و لا يقلل الأخطار و لا يخفف معاناة الناس بشكل مقبول و لكن سيعقد الأمور أكثر. و عليه نعود للسؤال الأول: ما هو الهدف الحقيقي إذاً من تبني مثل هذا النظام؟!!!.
     
    و الخلاصة أن التأمين الصحي بهذه الصيغة لا يناسب المجتمع الإسلامي لاحتوائه على:-

  11. الربا بنوعيه.
  12. الغرر الفاحش.
  13. < >أكل أموال الناس بالباطل و بدون مقابل حقيقي.
  14. أخذ مال المسلم بدون طيب نفس منه، خاصة عندما يكون إلزامياً.
  15. يولد الطبقية في المجتمع و يتحيز ضد المسنين و المعاقين و الفقراء و سائر الضعفاء في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إنما تنصرون و ترزقون بضعفائكم} رواه البخاري.
  16. يرفع تكاليف الخدمات الطبية و يخفض جودة الخدمات و ييسر الابتزاز.
  17. يؤثر سلبياً على عرض الخدمات الطبية و الطلب عليها.
  18. يضغط على ذمم الأطباء و يفقد الثقة فيهم و ينشر البغضاء.
  19. يسرب أموالاً ضخمة إلى خارج الاقتصاد الوطني.
     
    بدائل التأمين الصحي في مجتمع إسلامي:-
     
              إذا كان التأمين ليس نظاماً صحياً جيداً و لا يعمل على تكافل المجتمع و فيه ابتزاز للمريض و لا يغطي جميع الخدمات...الخ. فما البديل لمجتمع مسلم؟.

 
و قبل الكلام عن البدائل لابد من لفت الانتباه مرة أخرى إلى النقاط التالية:-

  1. التأمين التعاوني الذي صدر به قرار هيئة كبار العلماء السابق هو أشبه ما يكون بصناديق الأسر أو القبائل أو أصحاب المهنة الواحدة، حيث يقوم الموسرون الأغنياء من العائلة فقط بالتبرع لوجه الله تعالى، تخفيفاً و تكافلاً مع أقاربهم, وكل منهم يريد ما عند الله تعالى، فلا يريد ربحاً و لا استثماراً و يتمنى أن لا يحتاج هو إلى الصندوق. ثم إذا احتاج الضعيف أو الفقير كانت له الأولوية، هذا هو التكافل البعيد عن الربح و التجارة لا ما يوجد في السوق أو يراد له أن يوجد و إن سمي تعاونياً. حيث التعاوني يفترض أن يتوجه إلى الأكثر حاجة للعلاج و لا يحدد ساعة التغطية و لا يستبعد من يعجز عن دفع القسط أو يتهرب من الأمراض ذات التكلفة العلاجية المرتفعة.
  2. والقضية التي تثار لتبرير قيام التأمين الصحيتتعلق بأن هناك مشكلات في القطاع الصحي تتطلب حلاً، فهل نظام التأمين كما تمت مناقشته و اتضحت لنا خصائصه و مشكلاته هو الحل؟! وهل نحل إشكالاً بإشكال آخر،ربما كان أكبر منه؟!!إن الأسلوب العلمي في حل المشكلات يقتضي أن نحدد بالضبط ما هي مشكلات القطاع الصحي،ثم ندرس جميع البدائل التي يمكن أن تسهم في حل هذه المشكلات،ثم نختار أفضل هذه البدائل التي تعطي أعلى عائد و منفعة في ظل أقل التكاليف.و بكل تأكيد فإن هذا لا ينطبق على ما يقدمه التأمين و لا طريقة تحديده و نطاقه. فبلغة الأطباء: إن التأمين وصفة كتبت قبل تشخيص المرض، فلا غرابة أن لا يفيد الدواء بل يضر و يقتل.
  3. ومن الأمور التي يجب توجيه الانتباه لها أنه لا يمكن أن يكون البديل هو التأمين في ظل وضع إداري وفني متواضع وفي ظل عدم وضوح الإجراءات الطبية بدقةوفي ظل وجود مدارس طبية مختلفة و أطباء و مقدمي خدمة من دول كثيرة و مختلفة و في ظل عدم توحيد الأسعار وقصور فني وإداري وتقني وعدم وجود نظام عقوبات صارم وغياب الحوافز وعدم تهيؤ النظام القضائي الشرعي لفصل المشكلات الفنية التي ستنتج عن التأمين. كل هذا يجعل من المستحيل الحصول على أي نفع أو تحقيق هدف حقيقي من تطبيق التأمين هذا لو كان يصلح أصلاً لمجتمع مسلم، لأن ما يولد في مجتمع ما لحل مشكلاته عادة لا يصلح للتطبيق في المجتمعات الأخرى لاختلاف محددات سلوك البشر من معتقدات و عادات و تقاليد و ظروف وما إلى ذلك. فأن لكل مجتمع خصوصياته فلئن قَبِلت قيم و مبادئ بعض المجتمعاتنشوء الطبقية فيها و سمحت للأقوياء أن يستغلوا ضعف الضعفاء فإن المجتمعات السوية والإسلامية لا يمكن أن تقبل بهذا لأنه ليس خلقاً و لا عدلاً و لا إنسانية أن يستغل ضعف الضعفاء و فقر الفقراء لا ثراء الأثرياء من علاجو معاناة المساكين. بل إن النظام الصحي الإسلامي تاريخياً كان يوقف الأوقاف و يرسل الزكوات و الصدقات للقطاع الصحي لخصوصيته.
  4. و هناك نقطة أساسية أخرى و هي لماذا الاعتراض على الحصول على أرباح لقاء الخدمات الطبية باسم التأمين إذا كانت الشركات التي تعمل في القطاعات الخدمية تحقق أرباحاً كبيرة, مثل الإسكان أو النقل أو أي خدمة أخرى.فلماذا الاعتراض هنا؟!. الحقيقة أن سبب الاعتراض هو الطبيعة الخاصة للخدمات الطبية كما أوضحنا حيث أن هذه الخدمات ذات صبغة إنسانية تكافلية و يجب أن تبقى كذلك و لا يجوز أن تكون موضع تجارة.
  5. و بإقرارنا للتأمين فكأننا نمسك الفقراء للأغنياء لكي يفرضوا عليهم ضريبة لمصلحتهمو هو نوع من الظلم لأنه لا يحقق الفائدة المرجوة للمريض و هذا مخالف لأبسط قواعد العدالة بل إن التأمينيزيل الوجه الإنساني للخدمات الطبية التي تقتضي خصوصياتها أن تبقى إنسانية و لا تحتمل لا بالمنطق و لا بالعقل و لا بالخلق القويم أن يستفيد شخص من معاناة الضعفاء و الفقراء ويُثري على حسابهم بل و يتركهم عرضة لكل خطر في حالة فقرهم و عجزهم.ثم ما هو ذنب رب العمل الذي ينتقي عماله واحداً واحداً أصحاء أقوياء أن يدفع ضريبة ضخمة لشركة التأمين مقابل خدمة لا يحتاجها و تنقص من أرباحه، ألا يؤثر هذا على حجم الاستثمار و الاستمرار فيه و الأسعار النهائية للسلع و الخدمات التي سوف يدفعها المواطن؟!.
  6. ثم إذا كانت موارد البلد الاقتصادية كبيرة ووفيرة و خاصة الموجهة إلى الصحة من قبل جميع الجهات الطبية الحكومية و الخيرية كما هو الحال في بعض البلدان, فلو أن بعض هذه الموارد أحسنت إدارتها و توزيعها لما احتاجت كثير من الدول إلى موارد إضافية أصلاً، لأن هناك دولاً تدير مواردها الصحية الأقل بشكل أفضل و تحصل على نتائج طبية أفضل بكثير. و هذه الموارد الضخمة لابد أن يكون للضعفاء خاصة نصيبفيها, و إن أولى ما يترجم به حقهم فيها هو توفير الضروريات لهم, و تأتي الخدمات الطبية على رأس هذه الخدمات الضرورية، خاصة و أن أغلب أنظمة الحكم تكفل توفير الرعاية الطبية لأفراد المجتمع كحق مواطنة.
  7. من الأمور المعروفة في مجال اقتصاديات الخدمات أن الخدمات الطبية من السلع الظنية غير المؤكدة و لا معروفة النتائج و غير معروفة التكاليف و غير متجانسة و لهذا فلا بديل من تدخل الدول فيها بقوة لضمان حد أدنى من الجودة و للحفاظ على أموال الناس و أعراضهم و دمائهم و لمنع الغبن الفاحش للمريض و التلاعب بصحته و ابتزاز أمواله بسبب جهله وعجزه وكل هذه الأمور ستؤدي في حالة تطبيق التأمين إلى حصول نتائج سيئة .

و للمرء أن يتخيل الحجم الاقتصادي للمبالغ  التي ستتولد في حالة تطبيق التأمين الصحي، حيث يمكن أن يصل حجم المبالغ في دولة  تعداد سكانها مثلاً 20 مليون نسمة،  و كان على كل فرد منهم أن يدفع 2000 ريالاً كقسط تأمين،  فإن مجموع هذه المبالغ تبلغ 40 ملياراً على الأقل.  و هو مبلغ ضخم خاصةً إذا قارناه بميزانيات كثير من وزارات الصحة فلو دفعت بعض هذه المبالغ مباشرة إلى وزارات الصحة أو إلى مؤسسة عامة أخرى أفلا يمكن أن يستمر تقديم خدماتها بجودة أعلى و للجميع و بدون استثناء بدلاً من أن تذهب هذه المليارات إلى خدمات ليست كافية بل و متحيزة  كما رأينا عند الكلام عن آثار التأمين.
 
أما البدائل فهناك بدائل عن التأمين الصحي في مجتمع مسلم يمكن الإشارة إلى بعضها كما يلي:-

 

       
   
 
23
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 

  1. إعادة هيكلة القطاع الصحي و إنشاء مجلس أعلى للصحة مهمته تنسيق و توفير الخدمات الطبية بطريقة يقبلها المجتمع تقلل من المخاطر و التكاليف بشكل حقيقي و يعمل على تطوير الأداء و الإدارة و المرونة و البعد عن المركزية. كما يمكن إنشاء مجالس محلية للصحة في كل منطقة. خاصة و أن كثير من المجتمعات ليست مشكلتها في قلة الموارد بل في ضعف إدارتها و توظيفها.
  2. لو جمع ما خصص لجميع الجهات الحكومية من موارد صحية - خاصة و هي جميعها من الموارد العامة للدولة- ضمن مؤسسة عامة واحدة تتولى الرعاية الصحة لكانت إيراداتها في بعض المجتمعات الإسلامية تمثل أعلى نسبة إنفاق على الصحة من الناتج المحلي عالمياً.
  3. تطوير نظام الأوقاف و تشجيع المحسنين وفق نظام مرن موثوق يسمح للناس بإيقاف جزء من أموالهم وفق الشريعة الإسلامية على الخدمات الطبية المقدمة للمحتاجين.
  4. تشجيع الجمعيات الخيرية على إنشاء المراكز الصحية و المستشفيات في أنحاء البلاد الإسلامية كجزء من الخدمات الاجتماعية و الصحية للفقراء، خاصة و أن القطاع الخيري مشهور بكفاءة و إنتاجية العاملين فيه خاصة في المجالات الإنسانية كالخدمات الطبية. كما أنهكفؤ في خفض التكاليف،فدافع العاملين فيه غير مادي حيث أنه يحسن اختيارهم من ذوي الدوافع الذاتية. كما يمكنه نشر ثقافة التطوع ببعض الوقت و المعدات بين العاملين و ملاك القطاع الصحي، خاصة و أن تكاليف المستوصف الذي يمكنه تقديم الرعاية الأولية بل و بعض الثانوية لبضعة آلاف من الناس، تعدزهيدة نسبياً،و الذين يعملون في القطاع الصحي يعرفون أن هذه التكاليفتكاد تنحصر في أجرة طبيب و طبيبة و ممرض و ممرضة و مبنى و قليل من الأجهزة.
  5. إنشاء و تشجيع المنظمات غير الربحية و الجمعيات التعاونية على تقديم الخدمات الطبية مقابل التكلفة فقط للقادرين و بتمويل من موارد الدولة أو الجمعيات الخيرية أو الزكاة لغير القادرين. و المنظمة غير الربحية تدفع أجر السوق للعاملين فلا تبخسهم حقهم لكي تستقطب الكفاءات و لكنها لا تراكم الأرباح على حساب الآخرين و لذلك فهي تصلح للخدمات الإنسانية. فيدفع القادر مادياً مقابل تكاليف علاجه الفعلية و غير القادر يمكن تمويله من المصادر الأخرى لضمان حصوله على ما يحتاج من علاج في صورة تكافلية إسلامية رائعة فالناس لا يطلبون العلاج فقط بل يطلبون أيضاً الأمن الصحي بمعنى أن يتيقن أنه لو أصابه أو أصاب أحد من أسرته طارئ أن يجد إسعافا ينقله في وقت سريع إلى مكان موثوق يحصل فيه على ما يحتاج و لا يكون عرضة لبيع بيته أو كل ما يملك أو قوت أطفاله لعلاج أحدهم. المجتمعات تفتقر إذاً إلى الأمن الصحي الذي ينبغي أن يتوفر في المجتمعات السوية.
  6. ثم يأتي دور القطاع الخاص ليقدم خدمات يتم تسعيرها و تحديد إجراءاتها تحت إشراف الدولة مقابل مبالغ تغطي التكلفة مع هامش ربحي معقول، لئلا تكون مجالاً لاستغلال حاجة المريض و جهله.
     
        إن تبني هذه الخيارات مجتمعة  – عند عجز موارد الدولة–  تقدم نظاماً صحياً لا مثيل له في العالم حيث  يحفظ للطبيب والخدمات الطبية الوجه الإنساني المشرق وينشر التكافل و يمنع الاستغلال والفساد الإداري ويحفظ الثقة فيه وأطبائه وذممه فيبقون فوق الشبهات.   
     
    المداخلات:-
    رئيس الجلسة: نشكر الدكتور مسفر على هذا العرض الممتع وأنا ضغطت عليه في الوقت لأني لا أريد أن أربط الإخوان كثيراً..  و المجال شيق و الأطروحات كانت في رأيي الشخصي ممتازة،  فلعلي أترك وقتاً للاخوة، نحاول ألا نطيل –إن شاء الله–  في حدود 12- 13 دقيقة، على أساس أن نصلي –إن شاء الله – الساعة الثامنة والثلث...
     
    فنبدأ الآن إذا كان هناك أي تساؤل أو مناقشة وندع الدكتور مسفر يجيب في الأخير ـإن شاء الله- تفضل.
     
     
    الدكتور عبدالله: بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ..
    أشكر الأستاذ الدكتور على جهده وعلى عرضه الجيد، وفي الحقيقة الموضوع يحتاج إلى كثير من التفصيل وخاصة أن المقام مقام تأصيل ويطرأ إلى التأصيل لأنه يدخل بالدراسة الفقهية والقانونية التي يُُُُرَدُّ فيها التأمين إلى أصل يكون سليماً وصحيحاً لكي يكون بديلاً عن التأمين الذي ذكر لنا الدكتور طرفاً من إشكالاته وسلبياته...
    معالي الدكتور بيَّن جوانب جيدة ومهمة تفتح ذهن الإنسان إلى أمور لم يكن من يتكلم عن التأمين يجلونها أو يظهرنها، وهي السلبيات التي تنجم عن التأمين إذا كان في ظل الفكر الرأسمالي وهو غالب ما عليه التطبيق اليوم ..  لكن الدكتور – بارك الله فيه – استقطع وقتاً طويلاً في المقدمة الاقتصادية وجاءت على حساب ما ينبغي أن يكون الكلام عليه في التأمين من الناحية التأصيلية، فسأتكلم عن بعض المسائل التي ذكرها الدكتور، والكلام تكاملي وليس تقاطعي أو على وجه المنافاة:
              يقول أن التأمين يتبع لعلم الاقتصاد، إن كان هكذا فلا نقدر أن نعمل شيئاً،  فصحيح أن الاقتصاد له علاقة بالتأمين لكن أنا ضد الحدية، مع أن الاقتصاد له علاقة بالتأمين،  وفي غير التأمين طالما أن غاية الاقتصاد هو أن يحصل على أفضل عائد بأقل كلفة، فأي موضوع يترتب عليه كلفة مالية ونريد أن نديرها بهذه العملية تكون هذه الإدارة وهذا التفكير من قبيل علم الاقتصاد.. لكننا إذا تساءلنا و قلنا ما هو التأمين؟ سنقول هي معاملة بين أطراف معينه، إذن هي فعل من أفعال المكلفين، و أفعال المكلفين موضوعها هو علم الفقه، و في الحقيقة أنني أدخل في علم فقه المعاملات و لهذا علم فقه المعاملات يعنى بالبيع و الشراء و الضمان و الرهن...الخ.

          الأمر الثاني: الدكتور تكلم عن المشكلة الاقتصادية، مع أنه ذكر أننا لسنا مع إطلاق المذهب الرأسمالي فيها لكنني بودي أن أبين أن المشكلة الاقتصادية في واقع الأمر غير مسلمة بكل حذافيرها لأن الله تعالى يقول:  {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21} سورة الحجر   و ما يواجهه الناس من نقص يزعمونه مشكلة تجده عند الاستقصاء يرجع إلى سلوك الناس.. أما المخالف للشريعة أو المقصر في بذل الأسباب و في طلبها.           
          ثم إنه فيما يتعلق بالشيوعية عند التساؤل لمن يُنتَج في النظام الشيوعي و كان الجواب: إنه للجميع بالتساوي، و الحقيقة هذا الذي يظهره النظام الشيوعي، لكن في التطبيق واقعاً ليس الإنتاج للجميع بالتساوي و لكن هناك الطبقية كما هو الشأن في النظام الرأسمالي و لكنها أخف و المشرفون القائمون على النظام هم الذين يستولون على الثروة و الشعوب تتساوى في الحرمان لا في الإنتاج.
          مسألة أخرى ألا و هي: أن الدكتور ميز بين الإسراف و التبذير، و هذا لا يظهر لي أن اللغة تسعفه، لكن إن كان الاقتصاديون اصطلحوا على هذا لربما أما أن يكون ذلك ما يستفاد من اللغة فلا يظهر لي، و يقول تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا {26} سورة الإسراء  فدل أن الذي لا يلتزم بالحق و يجاوزه أنه مبذر و التبذير هاهنا هو شقيق الإسراف. شكراً لكم، و لكني أدعو إلى أن تعقد ندوة أخرى للتأصيل و يكون موضوعها قانوني و فقهي لأن هذا هو تأصيل المعاملة لكي تتجه الوجهة التي نريدها، شكراً لكم.
 
          رئيس الجلسة: جزاك الله خيراً.
         
بسم الله الرحمن الرحيم
          محمد البنيان: هيئة السوق المالية، أستاذ قطاع الإدارة الصحية في معهد الإدارة سابقاً...
          شكراً لك دكتور مسفر والحقيقة أتحفتنا بمعلومات قيمة وكنا نريدك أن تستمر إلى آخر ما في جعبتك, لكن هناك اقتراح, وهناك سؤال, الاقتراح يقول: ربما لو تعمم هذه المحاضرة أو مثل هذه الدروس التوعوية على المجتمع بحيث يدرك حجم المشكلة القادمة المتعلقة بالتأمين تحديداً.
          والسؤال يقول: بطرحك للبدائل دكتور مسفر ما هو الحل من وجهة نظرك؟ قد يكون لديك عدة خيارات كحلول ولكن ربما أن يكون هناك مشاركة من الجميع في بعض الحلول لكي تصبح فعلاً حلول. شكراً لك...
 
          بسم الله الرحمن الرحيم
          عبدالله بن عبد اللطيف العقيل: مدير عام مركز الإدارة القيادية الشاملة للاستشارات, أشكر الدكتور شكراً جزيلاً على المعلومات القيمة, تمنينا حقيقة تمديد الوقت في مثل هذه المحاضرات, ساعة إلا ربع لا تكفي لموضوع مثل هذا الموضوع الضخم متلاطم الأطراف كالبحر الهائج، أتينا ونحن متعشمين على معلومات ضخمة نتوقع الدكتور يحملها لنا, اقتضاب الوقت حرمنا من كثير من المعلومات, فأتمنى أن تراعى هذه المسألة في المستقبل.
          المسألة الثانية: نحن لم نعلم بهذه النقاط, أهمية الموضوع ضخمة, لا أدري ما هي الآليات الإعلامية عند الندوة أتمنى أن يكون هناك تواصل أكبر وأتوقع أن شريحة ضخمة من الناس لو علموا بهذا الاجتماع لكانت القاعة قد اكتظت ولم نجد مكاناً حتى نجلس فيه, وجزاكم الله خيراً على هذا العمل, والسلام عليكم...
 
          رئيس الجلسة: نشكر الأخ عبدالله والحقيقة أن الناحية الإعلامية قد لا تكون بذاك الشكل لأنها تركز على طبقة الأساتذة, فمن ناحية الانتشار على الجمهور ليس هناك جهد في هذا الجانب, لكن إن شاء الله في مرحلة لاحقة لعلنا نعمل على هذا.
          هل هناك أحد يريد أن يدلي بمداخلة قبل أن نترك المجال للدكتور مسفر حتى يجيب على التساؤلات المطروحة؟ حسناً تفضل دكتور...
          الدكتور مسفر: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...
          ذكرني الأستاذ محمد بقضية حجم المشكلة, حجم المشكلة ضخم إلى درجة كبيرة, لك أن تتخيل حجم التسرب والهدر الذي سيحدث بسبب تطبيق التأمين انظروا إلى المليارات التي ستذهب على خدمات غير موجودة فشركات التأمين تأخذ ولا تدفع إلا نسباً قليلة جداً لمن يطالبون, هذا بالإضافة إلى أنها كثيراً ما تتهرب ولهذا فهي أكبر من يوظف القانونيين لكتابة العقود التي لا يكتبها إلا القانوني والسطور الدقيقة ثم للتهرب من الدفع, هذه كلفة, أما الكلفة الأخرى: أن هؤلاء الذين سيستبعدون, وهم الذين يحمِّلون وزارة الصحة شيئاً ضخماً, ولا يوجد مفر إلا أن يُعالَجون إن استطاعوا على حسابهم أو الحكومة ستتكفل بهم.
          أضف إلى هذا أن شركات التأمين تعمل على تسريب هذه المليارات بعيداً عن القطاع الصحي هذا من جهة, ومن جهة أخرى أن هذه التسربات تذهب إلى ما يسمى بإعادة التأمين, والشركات المحلية الموجودة هنا ستبقى مكاتب وواجهات, وهذه المليارات كلها ستذهب إلى الخارج, وأنتم تعرفون أن التسرب إذا زاد فإن قدرة الاقتصاد تنخفض, وقدرة الاقتصاد إذا انخفضت فهذا ضعف كبير كما يعلم الاقتصاديون.
          البدائل في وجهة نظري, أنا أعتقد أنه إذا عجز القطاع الحكومي ولا أعتقد أن المشكلة في الموارد بل المشكلة في إدارتها, فربما القطاع الخيري هو البديل ليبقى الوجه الإنساني للطب, لكن لا يفهم أن القطاع الخيري سيتصدق على الجميع, بل يقدم خدمة للقادر فيدفع مقابل تكلفته, وغير القادر تقدم له الخدمات مجاناً عن طريق الأوقاف أو الزكاة والصدقات, فهذا هو البديل لأنك إذا أدخلت الربح في الخدمات الطبية فسدت ذمة الطبيب, وابتُزَّ المريض, إذا ألزمته كأنك تمسكه لهؤلاء التجار ليفعلوا به ما شاءوا، و الطبيب إذا لم يُختار بعناية، و لسوء الحظ في كثير من المجتمعات لا  يختار في السنوات الأخيرة بعناية مع أنه الوحيد الذي يدرس أخلاقيات المهنة لأنه مؤتمن على الأموال و الأعراض و الدماء، و إذا ضغط عليه ثم لم يعد ثقة تعرفون ما الذي سيحدث. مرة أخرى فالبديل إذا لم يوجد قطاع حكومي إذاً هو القطاع الخيري و المنظمات غير الربحية، هذا هو البديل الذي أعتقده و يجب أن يتكاتف المجتمع كله لتحقيق ذلك.
          بالنسبة للدكتور عبدالله: لأننا نؤصل أطلنا قليلاً في قضية الاقتصاد، و لو كان لدينا وقت لضربنا لكم الأمثلة على كون  الاقتصاد من أكثر العلوم ظلماً، كثير من التطبيقات الرأسمالية تنسب إلى الاقتصاد و هو منها بريء حتى هرب من تخصص الاقتصاد الكثيرون لأنهم يعتقدون أن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا أو على الرأسمالية...الخ.
أما قضية التكامل: نعم كل العلوم تتشابك مع الاقتصاد، و لكن عندما يكون هناك مال و اختيار و توظيف أمثل هذا محور اهتمام الاقتصاد، لماذا التأمين الصحي يعتبر بديلاً ليس جيداً؟ لأنه سيهدر موارد المجتمع لأن الموارد يجب أن تذهب إلى الهدف فإذا بعدت بعيداً عن الهدف أهدرت الموارد، و لماذا تُهدر؟ لأنك خرجت عن النظام الاقتصادي، و بالمناسبة النظام لاقتصادي كما رأيتم فهو مجموعة العقائد و القيم و العادات و الظروف، فكل هذه مؤثرة في سلوك الناس الاقتصادي.
          أما عن كون المشكلة الاقتصادية غير مسلَّمة، فهي غير مسلَّمة إذا قيل أن هناك ندرة مطلقة و هي التي قال بها بعض الاقتصاديين الغربيين مثل مالتس الذي يقول إن الموارد تتزايد بمتوالية حسابية 1، 2، 3، 4  بينما الحاجات و الرغبات و السكان يزيدون بمتوالية هندسية 1، 2، 4، 8، 16، 32.  بالتالي ستزيد حاجات الناس و لا يبقى شيء من الموارد يكفي، نحن لا نقول بهذا بل نقول بأن الموارد كثيرة والله سبحانه و تعالى أنزل من الخيرات ما يكفي أضعاف البشر على الأرض بدليل أن عشر الأرض الصالحة للزراعة فقط مستغل، و أيضاً بدليل أن الفوائض ترمى في البحار من قبل الأنظمة الأخرى... و الأدلة كثيرة، لكن المشكلة موجودة، لماذا؟ لأن أمامك اختيارات كثيرة و رغبات بعضها حقيقي و غير حقيقي، فعلى سبيل المثال: عندما يقرر الناس أن يدخنوا، و تصبح لدينا 15 مليار سيجارة في السنة في المملكة، هذه ليست بحاجة و لا بضرورة و لا بكمالي و لا حتى إسرافي بل هي تبذير لأنها موارد و أنتم رأيتم الموارد دخلت و ذهبت في عملية الإنتاج و خرج منها إنتاج و لكن هذا الإنتاج ذهب ليضر.
             أما عن الفقر و أن سببه التقصير في طاعة الله: فليس بالضرورة لأنه ابتلاء، و الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أطوع الناس لله و مع هذا كانوا فقراء، فهو ابتلاء يبتليهم الله بالخير أو الشر  قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31} سورة الأعراف  و قال جل و علا: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا {26} إِنَّ الْمُبَذِّرِين كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا {27}سورة الإسراء.  ‏فالإسراف حتى في لغة القرآن نفهم منها أن الإسراف سيئ  لكن التبذير أسوء منه، فالإسراف عندما تسرف في مباح، غذاء بدل أن يذهب لسد حاجة الناس  يرمى في المزابل، لكن التبذير موارد أعطت إنتاج و لكن هذا الإنتاج من أصله مضر، مثل التدخين و الإعلام الهابط و الرياضات الخطرة، و لهذا أعتقد أن الفرق واضح. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (التبذير: الإنفاق في غبر حق)، و قال قتادة: (التبذير: النفقة في معصية الله تعالى). 
            أما التقصير فقد أقصر فأعاقب، و أطيع فينعم الله علي بالموارد، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {96}سورة الأعراف.  فلذلك الله جل وعلا يمتحننا و لو كنا طائعين بالفقر، و قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {10}‏ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل  لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا {12}سورة نوح.   نحن نعلم بأن الله جل و علا هو منزل الموارد، فهو وزعها بغير تساوٍ لحكمة شاءها، فأعطى هؤلاء البترول و أعطى هؤلاء الماء و هؤلاء أعطاهم الغابات و أولئك  المراعي لحكمة شاءها، و لكن ليست معصية الله السبب الوحيد للفقر على أية حال الحديث ذو شجون و أشكر للدكتور عبدالله مداخلته، و إذا أردتم أن أختم بشيء فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو أصل مسألة التأمين التعاوني و هو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد  بالسوية فهم مني و أنا منهم) و هذا في صحيح البخاري و مسلم (متفق عليه)، هذا هو التكافل. و أيضاً ما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هل تنصرون و ترزقون إلا بضعفائكم).‏  فهل يهملهم المجتمع المسلم بل و يبتزهم، و لهذا أقترح في الختام و نحن نأصل أن نستبعد لفضة التأمين لا تعاوني و لا تجاري لأنني أعتقد أن هذا المصطلح دخيل، و أعتقد أنه ربما دس ليستغل و لا استبعد أن جهة ما قد دسته و لهذا نعود إلى الأصول الإسلامية فنسعى لحصول المجتمع على ما يمكن أن  نسميه "تكافل صحي"  ليبقى للقطاع الصحي إشراقه  و يستبعد الربح و التجارة و الابتزاز و إهدار الموارد، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
          رئيس الجلسة: جزاك الله خيراً، الحقيقة نشكر الدكتور مسفر، و نشكركم على الحضور و نسأل الله تعالى أن يجعل هذا في ميزان حسنات الدكتور مسفر، و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك و نتوب إليك.
                            
 
 
   
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
الندوة العالمية للشباب الإسلامي
 
     لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم

         لجنة المكتبة و قواعد المعلومات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 
التأمين الصحي في مجتمع إسلامي

 

 

 

 

 
 
د. مسفر بن عتيق الدوسري

أستاذ اقتصاديات الصحة في كلية العلوم الإدارية

    جامعة الملك سعود

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                             

 

    التأمين الصحي في مجتمع إسلامي

 

رئيس الجلسة: الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد و على آله و صحبه و من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.....

          أيها الأحبة الأكارم، نرحب بكم في هذه الأمسية الطيبة في يوم الثلاثاء السابع و العشرين من شهر ربيع الأول عام 1427هـ، في إحدى ندوات "لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم" في "الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، و عنوان محاضرة الليلة هو "التأمين الصحي في مجتمع إسلامي".

          محاضرنا هو الأستاذ الدكتور: مسفر بن عتيق الدوسري، و هو عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود كلية العلوم الإدارية، و التخصص: اقتصاديات الصحة و اقتصاديات التنمية.

          و الحقيقة أن التأمين من الموضوعات الجديدة علينا في المجتمع السعودي، و هو من الأشياء المعروفة على المستوى العالمي و نحن مقبلون على مرحلة التطبيق الإجباري له بالنسبة للسعوديين، أما غير السعوديين فكما تعلمون أصبح أنه ملزماً، فكثير من المفاهيم المتعلقة بالتأمين الصحي نجهل كثيراً منها، و طرحها بهذا التصور نرجو أن يزيدنا فهماً، و نتعرف على التصور الإسلامي عن هذا النوع من أنواع التأمين، و لعله إن شاء الله بعد أن نترك للدكتور مسفر الحديث بحدود 45 دقيقة ثم نترك المجال لكم إن شاء الله للنقاش فليتفضل مشكوراً...

 

          الدكتور مسفر: السلام عليكم و رحمة الله ...

          إن الحمد لله نحمده و نستعينه، ونستغفره و نستهديه، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده  الله  فلا مضل له، و من يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً و الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله و صحبه و سلم تسليماً كثيرا و عنا معهم ووالدينا و جميع المسلمين.

          أشكر الأخوة في لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم، كما أشكر لمعالي الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي حسن ظنهم و كريم دعوتهم... كما أشكر لكم تفضلكم بالحضور و حسن ظنكم...

          أراد الأخوة الفضلاء في هذه الليلة المباركة –إن شاء الله تعالى- أن نفتح نقاشاً حول التأمين الصحي في مجتمع مسلم أو مجتمع إسلامي.

          هذا الموضوع ضخم، و له تداخلات مع غيره، و قد يحتاج بسطه إلى وقت طويل، خاصة و نحن نريد أن نؤصل بعض المفاهيم، الإخوان أعطونا 45 دقيقة، لكن لعلنا نسلط الضوء على بعض النقاط الهامة فما لا يدرك جله لا يترك كله.

التأمين الصحي في مجتمع إسلامي..

المجتمع الإسلامي هل يختلف عن غيره؟

و إذا كان يختلف، فكيف يختلف؟

بدايةً.. التأمين الصحي.. إلى أي العلوم ينتسب؟

هذا الموضوع.. أليق العلوم به: هو علم الاقتصاد، و تحديداً اقتصاديات الصحة –و اقتصاديات الصحة فرع من فروع علم الاقتصاد- ..و علم الاقتصاد علم مظلوم، فكثيراً ما ينسب إليه ما ليس منه، و ينسب إليه تطبيقات الأنظمة الاقتصادية المختلفة على أنها منه، خاصة تطبيقات الرأسمالية و هو بريء منها.

علم الاقتصاد يبحث فيما يسميه الاقتصاديون (المشكلة الاقتصادية)..

 

 

 
 
3

 

 

 

 

 

 

 

2

و المشكلة الاقتصادية لها شقين:

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

فالشق الأول: يعني أن المشكلة تحدث بسبب تعدد و تزايد حاجات و رغبات أفراد المجتمع عبر الزمن، سواءً الحقيقية منها أو غير الحقيقية.

و كل المجتمعات عندها حاجات، و عندها رغبات، و بعض الرغبات حقيقي، و كثير منها غير حقيقي، و كل هذه الحاجات و الرغبات يراد لها أن تلبى و أن تشبع. و القضية هي كيف تشبع هذه الحاجات و الرغبات؟. لكن دعونا نرى أولاً: الحاجات و الرغبات و كيف يمكن تصنيفها: يمكن أن تصنف الحاجات و الرغبات في المجتمعات إلى خمسة أصناف:

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصنف الأول: يمكن أن نسميه الضروريات، و الضروريات هي تلك الحاجات و الرغبات التي بفقدها تتضرر الكليات الخمس، الدين و العرض و النفس  و العقل و المال. و لذلك يجب أن تشبع بأولوية.

بعدها: الحاجيات، و الحاجيات سلع و خدمات فقدها لا يؤثر على الكليات الخمس و لكن يؤدي إلى ضيق الحياة و عسرها مثل الكهرباء فلن نموت بدون الكهرباء، و لكن وجود الكهرباء يجعل الحياة أكثر رغداً و راحة.

بعد هذا: تأتي الكماليات، و توفرها يجعل الحياة سهلة و سلسة كما أن فقدها لا يجعل الحياة صعبة أو قاسية، مثل فتح الأبواب عن بعد و مثل فتح نوافذ السيارات بالكهرباء و نحوها.

ثم الإسرافيات، و الإسرافيات في أصلها مباحات، و لكنها ذهبت إلى غير نفع مثل فائض الولائم، أصل الطعام مفيد و نافع لكن إذا زيد عن الحد فرمي نكون قد أسرفنا و أهدرنا الموارد.

بعدها: تأتي التبذيرات، و التبذيرات هي ما يأتي بالضرر مثل ما ينفق على التدخين و الخمور و المخدرات و الإعلام الهابط، فهناك موارد ذهبت لإنتاج سلع و خدمات و لكنها انتهت تسبب الضرر للأفراد و المجتمعات.

نعود للشق الثاني من المشكلة الاقتصادية، فهذه الحاجات و الرغبات الحقيقية يقابلها محدودية في الموارد الاقتصادية، محدودية نسبية عندما ننسب إلى الحاجات و الرغبات هذه الموارد الموجودة. فإذا أردنا أن نشبع هذه الحاجات و الرغبات الحقيقية و غير الحقيقية فيلزمنا موارد و الموارد مهما كانت كبيرة إلا أنك إذا نسبتها إلى حاجات الناس و طموحاتهم و رغباتهم الحقيقية و غير الحقيقية فإنها ستبقى نادرة.. نحن لا نقول أن الموارد نادرة ندرة مطلقة، فإن الله جل و علا أنزل من الخيرات على هذه الأرض ما يفي بمتطلبات أضعاف البشر، ولكن أكثر ما يسبب المشكلة الاقتصادية هو سلوك الأفراد.. إذاً سلوك الأفراد يضخم المشكلة أو يحجمها.

لنرى الآن كيف ُتلبى الحاجات و الرغبات. هذه الحاجات و الرغبات التي تكلمنا عنها (الضروريات، و الحاجيات، و الكماليات، و الإسرافيات، و التبذيريات) إذا أردنا أن نلبيها نحتاج إلى إنتاج. مثلاً: الجوع، يراد له أن يسد، كيف نسده؟ نحتاج إلى إنتاج.. و الإنتاج عبارة عن سلع و خدمات، بالنسبة للإنتاج الذي يسد الجوع هو الغذاء. و كيف نحصل على إنتاج؟ نحصل على الإنتاج عن طريق العمليات الإنتاجية، مثل: الزراعة، الصناعة، التعليم، الغذاء.. الخ. و كيف أحصل على العمليات الإنتاجية؟  نحصل عليها عن طريق توظيف الموارد. و الموارد هي ما يدخل في العمليات الإنتاجية و تنحصر في:
 

  1. < >الموارد الطبيعية و هي كل ما يدخل على خلقته في عمليات الإنتاج.
  2. و الأصول المنتجة وهي ما لا يدخل على خلقته في عمليات الإنتاج مثل الآلات و الأجهزة و المباني (يطلق عليه اصطلاحاً عند الاقتصاديين رأس المال).

     

           
     
    4
       
     

     
     
     
     
     
     
     
     

الحاجات و الرغبات تتزايد عبر الزمن، فما كان أجدادنا بحاجة إليه من سلع و خدمات مقارنة بسلع و خدمات جيلنا قليلة جداً. و الموارد مهما كانت كبيرة، فما هو متوفر لكل مجتمع منها –إذا نسبتها إلى ما يريد ذلك المجتمع أن يحصل عليه من سلع وخدمات عن طريقها- ستجدها نادرة أو محدودة نسبياً، لو لم تكن محدودة نسبياً لوجد كل طالب كرسياً في الجامعة، و كل مريض سريراً في المستشفى،وكل من يريد سكناً يجده وهكذا.  وهذه الحقيقة المتعلقة بالمشكلة الاقتصادية تلزم المجتمعات بالإجابة على مجموعة من الأسئلة، فجميع المجتمعات بدون استثناء مادامت على هذه الأرض فهي تواجه تعدد الرغبات والحاجات مع المحدودية أو الندرة النسبية للموارد، نسبة إلى السلع والخدمات. نعم كل المجتمعات يواجهونها، وما داموا يواجهون هذه المشكلة يحتاجون إلى أن يتعاملوا معها، أما كيف يتعاملون معها؟ فيكون ذلك بأن يجيبوا على أسئلة المشكلة الثلاثة (التي رأيناها في اللوحة الأولى) بطريقة صحيحة. ويجب أن يضعوا أولويات لما سوف ينتجون؟ فهذه الموارد المحدودة يجب أن يحدد إلى أين تذهب؟ فإذا لم يضعوا في اعتبارهم كمية ونوعية السلع التي يراد إنتاجها فإن مواردهم تهدر. أيضاً يلزمهم تحديد طريقة إنتاج أو تقديم السلع والخدمات، فليست كل الطرق مقبولة، لأن هناك طرق إنتاج تهدر الموارد، فلو أردنا مثلاً أن نزرع قمحاً ونحن في مصر فإننا سنكثف الماء لأن نهر النيل موجود، وعندنا في وسط جزيرة العرب سنكثف رأس المال أي الآلات والأصول المنتجة، لأن الماء أندر من رأس المال، لذا نجد الآن المزارعين أخذوا في استخدام الرشاشات المحورية ليوفروا الماء. وأيضا يلزم أن ً يجاب على سؤال  لمن يُنتج؟ أي تحدد طريقة التوزيع لعوائد الإنتاج، فما كل طريقة توزيع تقبل من كل مجتمع وفق معتقداته.

          نأتي الآن إلى علم الاقتصاد، علم الاقتصاد يدور حول هذه المشكلة الاقتصادية يحاول أن يخففها، لن يزيلها لأنها موجودة وتواجه كل مجتمع، لأن الموارد محدودة نسبة إلى تصرفات الناس وإن كانت كثيرة و وفيرة والأدلة على كثرتها مستفيضة، علم الاقتصاد يأتي ليعالج أو يتعامل مع أو ليخفف هذه المشكلة.  وعلم الاقتصاد له تعاريف كثيرة ولكن ربما أفضل تعريف له هو أنه:

 

 
 
5

 

 

 

 

 

 

 

هو علم اجتماع ( وضع تحت كلمة الاجتماع عدة خطوط ) . ويدرس التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية، التي هي عناصر الإنتاج التي ذكرنا: العمل ورأس المال والموارد الطبيعية والتي هي نادرة نسبياً بطبيعتها، من أجل أن نحصل على أعلى منفعة في ظل أقل التكاليف.  لكن هذا الهدف الذي هو "التوظيف الأمثل"،  لا يمكن تحقيقه مهما عرفنا من نظريات و أدوات علم الاقتصاد، لماذا؟ لأن علوم الاجتماع تدرس و تتعامل مع سلوك البشر، و البشر سلوكهم محدداته كثيرة جداً و تختلف باختلاف البشر، محددات تغيير سلوك البشر يلزم فهمها لفهم سلوكهم، و لهذا فمهما عرفت من نظريات علم الاقتصاد و أدواته، فلا تستطيع أن تحصل على التوظيف الأمثل لموارد لأي مجتمع إذا لم تفهم ذلك المجتمع. و السؤال هو ماذا ينبغي أن تفهم في المجتمع؟ و الجواب هو أن تفهم نظامه الاقتصادي، و ما هو النظام الاقتصادي؟

 

       
   
 
6
 

 

                                      

 

 

         

 

-إذا أردت أن تعرف شكل العلاقة بين النظام الاقتصادي  و علم الاقتصاد- تجد أن علم الاقتصاد مثل قطعة القماش، فالقماش مفيد، مثلاً إذا كان عشرة أمتار في مترين مفيد و لكن لتحصل على الاستفادة القصوى لابد أن تفصله على مقاسك، و لكي تفصله على مقاسك تحتاج إلى خياط يأخذ مقاساتك، و نظريات و أدوات علم الاقتصاد غير مفيدة إلا أن يأتي من يفصلها ليُستفاد منها استفادة قصوى تحقق التوظيف الأمثل، و الذي يفصل على مقاس المجتمع هو نظامه الاقتصادي. و ما هو النظام الاقتصادي؟ هو أسلوب إدارة الموارد أو أساس اتخاذ القرارات الاقتصادية الرئيسية. و ما هي القرارات الاقتصادية الرئيسية؟ هي التي تتعلق بالإنتاج و الاستهلاك و التوزيع، و إن شئت فهي إجابة أسئلة المشكلة التي طرحناها قبل قليل: ماذا ننتج كماً و نوعاً؟ كيف ننتجه؟ من نعطيه إذا أنتجناه؟ و هو ما تختلف فيه الأنظمة الاقتصادية عن بعضها.

          فمهما كان عندي من معرفة بنظريات علم الاقتصاد و أدواته و أنا لا أعرف النظام الاقتصادي لمجتمع ما فلا أستطيع أن أوظف موارد ذلك المجتمع  توظيفاً أمثلاً يحقق أهدافه بكفاءة، و لهذا فعلماء الاجتماع عامة و علماء الاقتصاد خاصة لا يُستَوردون، لأنه مهما عرف أحدهم من نظريات الاقتصاد و هو لا يعرف المجتمع فإنه لا يستطيع أن يوظف الموارد توظيفاً أمثلاً. ما سبق كان عن وظيفة النظام الاقتصادي أما تعريف النظام الاقتصادي: فهو مجموعة العقائد  و القيم و العادات و التقاليد و الظروف التي يتخذ بناءً عليها القرارات الاقتصادية المهمة، و إذا لم تفهم الشقين: معرفة الاقتصاد و نظرياته و معرفة خصائص كل مجتمع فلن تستطيع أن تحقق الكثير.

          دعونا نرى مزيداً من إيضاح هذه النقطة:-

 

 
 

 

 

 

 

         

 

 

 

هذه الأسئلة التي تتعلق بالقرارات الاقتصادية: ماذا ينتج؟ و لمن ينتج؟ و كيف ينتج؟  و هذه الأنظمة الأشْهَر: النظام الاقتصادي الإسلامي، و النظام الاقتصادي الشيوعي، و النظام الاقتصادي الرأسمالي.

          انظروا إلى كيف يحدد ماذا ينتج؟ و هذا السؤال الرئيسي، يعني كيفية تحديد كمية و نوعية السلع التي تنتج في السوق الرأسمالي، و هي تنتج بناءً على ما يسمى عند الاقتصاديين "بالطلب"، بمعنى أن ما يطلب ينتج و ما لا يطلب فلا ينتج. لكن ما هو تعريف  الطلب؟  الطلب له ثلاثة شروط.  و لكي تعتبر أنك تطلب هذه السلعة يجب أن تكون عندك رغبة فيها، و قدرة على أن تدفع الثمن، و استعداد أن تدفع الثمن عندما تتوفر السلعة، فإذا اختل أحد هذه الشروط فلا تنتج لك هذه السلعة مهما كانت ضرورية و مهمة، و إذا توفرت هذه الشروط تُنتج حتى السلع التي لا يقرها العقلاء، و لهذا أنتج في ظل الرأسمالية تحت هذه الشروط سلع ما أنزل الله بها من سلطان، فهي شر محض و فساد عريض. في حين أنه إذا لم يكن لديك ثمن حتى لو كانت عندك حاجة شديدة أو رغبة لا ينتج لك شيء، و لذلك ففي ظل النظام الرأسمالي  كثيراً من سلع الفقراء لا تنتج لأنهم ليست لديهم القدرة على دفع الثمن.

          انظروا إلى النظام الشيوعي: إنه يحدد كمية و نوعية السلع في السوق بناءً على خطة، يجتمع الحزب ثم يتخذ قراراً  بماذا سينتج في السنة القادمة من سلع و خدمات كماً و نوعاً، فعلى سبيل المثال يحدد عدداً معيناً من الطائرات و الدبابات و سرر المستشفيات و كما يحدد حجم القمح و الملابس و هكذا بدون اعتبار للطلب.

          نحن في الإسلام نعترف بالطلب، ما يطلب بشروطه الثلاثة الرغبة في السلعة، و القدرة على دفع الثمن، و الاستعداد لدفع الثمن عند توافر السلعة، فإنه ينتج و لكن نقيده بعدم الضرر لا على الأفراد و لا على المجتمعات، فأنت لست حراً في إلحاق الضرر بالآخرين و لا حتى بنفسك.

          انظروا إلى السؤال الثاني: لمن ينتج؟ فعوائد إنتاج السلع  و الخدمات تُعطَى في ظل الرأسمالية لمن شارك في العمليات الإنتاجية، يعني تُعطَى لمن يملك العمل و رأس المال و الموارد الطبيعية، فيأخذ جميع العوائد، و ليس عليه التزامات في هذه العوائد، لا التزامات لأولاده و لا لزوجته و لا لأبيه و لا لأمه و لا للفقراء أبداً.  فليس في النظام الرأسمالي البحت ما يعطي غير الذي شارك في عمليات الإنتاج بملكية الموارد المشاركة في الإنتاج، و لذلك تجدون في أي نظام رأسمالي و مهما كان غنى البلد الذي يطبق فيه هذا النظام ستجد فيه طبقات ضخمة من الفقراء، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال يوجد حوالي أربعين مليون إنسان تحت خط الفقر،  يعني أنه لا يحصل الواحد منهم على دولار واحد في اليوم، هؤلاء غير المشردين حيث يوجد أربعة أو خمسة ملايين مشرد، لماذا؟ لأنه في الرأسمالية هكذا توزع  عوائد الإنتاج على نسب صغيرة من أفراد المجتمع. كما تعمق هذه الطبقية أنظمة أخرى مثل الربا و كذلك التأمين.

          أما في النظام الاقتصادي الشيوعي البحت: فيوزع العائد بالتساوي على الذي شارك و الذي لم يشارك و هذا خلاف الفطرة، حيث يجب أن تميز المجتهد. و كلكم شهدتم سقوط الشيوعية، و لعل من أهم الأسباب هذا الخطأ في التوزيع و ادعاء المساواة بدون عدالة.

أما في الإسلام فنعم من شارك في الإنتاج له كل العوائد، و لكن عليه التزامات، التزامات النفقة: لزوجته و أولاده و أبوه و أمه، ثم الزكاة لمن لا يستطيع أن يعول نفسه، و بعدها ما تجود به نفسه، ثم يأتي دور بيت مال المسلمين ليضمن الحد الأدنى لكل مسلم.

أما بالنسبة لسؤال كيف ينتج؟ فهو سؤال فني ، فالجميع تقريباً متشابهين في إجابته و إن كان هناك بعض اختلاف ليس هذا مجال بسطه، و لا يهمنا كثيراً لأن ما يهمنا هنا هو هذه الأسئلة التي تعكس الفكر و القيم.  ماذا ينتج؟، مثلاً ما الذي جعلنا ننتج الشماغ؟. فلدينا طلب على حوالي مليوني شماغ في السوق السعودي. و ما الذي جعل الفرنسيون عندما احتلوا الجزائر يحولون العنب إلى خمور و عطور؟ لأن نظامهم الاقتصادي لا يمنعهم من ذلك، و إذا جاء النظام الإسلامي سيرفض هذا. إذاً هذا حلال و هذا حرام، هذا الظرف يسمح وهذا الظرف لا يسمح و كذلك العادات و التقاليد...الخ، فكل هذه جزء من النظام الاقتصادي لكل مجتمع.

إذن خلاصة هذا الكلام: أنك إذا أردت أن تحقق التوظيف الأمثل الذي هو هدف علم الاقتصاد فإنه لا يمكن تحقيقه إلا في ظل النظام الاقتصادي السائد في البلد، و مهما حاولت أن تفعل و أنت خارج عن أطر النظام الاقتصادي السائد فإن الموارد تهدر و لا يتحقق التوظيف الأمثل. دعونا نعطي مثالاً: لو قررنا أن نفتح مدرسة في قرية، و كان المجتمع مسلماً، و بنينا مدرسة واحدة لأن الأولاد  قليلين، و أصبحت المدرسة مختلطة، أي خالفت النظام الاقتصادي فما الذي يحدث؟ الذي يحدث هو أن هناك أهالي لن يرسلوا أولادهم إلى تلك المدرسة لأن هناك اختلاط بين البنات و البنين، كما أن المدرسين لن يدرسوا، فتصبح هذه المؤسسة غير مستَغَلَّه، أي أنه قد أهدرت الموارد التي أرسلت لبناء المدرسة لأنه قد تمت مخالفة النظام لذلك المجتمع المسلم الملتزم بدينه. مثال آخر دائماً أضربه لطلابي في الجامعة، عندنا في الجامعة دورات المياه -أعزكم الله- مقسمة في كل دور و عند كل مدخل و قد تجد في الكلية مائة و خمسة و عشرين أو مائة و ثلاثين وحدة حسب حجم  الكلية، و الدورات الخماسية تقسم بهذا الشكل: إفرنجي، عادي، إفرنجي، عادي، إفرنجي، فإذا دخل وقت صلاة الظهر أو العصر تزاحم الطلاب على الوحدتين العاديتين، و تلك الثلاثة الباقية الإفرنجية لا يكاد يدخلها أحد، و بعضهم قد تفوته الصلاة و هو ينتظر، لماذا لا يدخلون تلك الثلاث؟  و ما المشكلة؟.  الذي صمم المبنى لم ينظر إلى أن الناس لا يستخدمون هذا النوع، ربما لأنه ينجس ثيابهم، أو ربما لأنه ينقل الأمراض، أو ربما لأنه لم يعتادوا عليه، أو لأي سبب آخر، و السبب  لا يهم لكن النتيجة أن ستون بالمائة من الموارد التي ذهبت لبناء دورات المياه ضاعت هدراً، لأننا ما نزلنا إلى فهم ماذا يقبل هؤلاء الناس، و ستبقى مهدرة إلى أن تتهدم الجامعة أو ينتهي عمرها الافتراضي، أو تحول إلى دورات عادية، و إذا حولناها فإنه لابد من تحمل تكاليف إضافية قد تكون باهظة...الخ.

 

8

 

 

و ما هي اقتصاديات الصحة؟:-

          قلنا أن التأمين الصحي ينسب إلى الاقتصاد و بالذات اقتصاديات الصحة فما هي هذه الاقتصاديات؟ إذا كان علم الاقتصاد يدرس التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية بشكل عام فإن اقتصاديات الصحة تبحث في التوظيف الأمثل للموارد في القطاع الصحي لكي تحصل على أعلى عائد من هذه الموارد في ظل أقل التكاليف. و مرة أخرى تذكر أنك إذا خالفت النظام الاقتصادي و أنت توزع موارد القطاع الصحي فإنك تهدرها رغم شدة ندرتها نسبة إلى حاجات المجتمع الصحية، و دعونا نعطي مثالاً: انظروا إلى نسبة ما يذهب من الموارد النادرة لاستقطاب الأيدي العاملة الطبية، فنحن ننزل إلى السوق الدولي لكي نحصل على الأطباء و الممرضين و الممرضات...الخ، فلنقارن بين نتائج التعليم  الطبي و التعليم العادي أو التعليم العام: انظروا كيف تعلم النساء و البنات حتى فاضت أعداد خريجات التعليم العام و حاملات الشهادات العليا حتى أرسلن إلى القرى و الهجر و الصحاري. بينما عجز التعليم الطبي من أن يوفر حتى الممرضة التي لا تحتاج إلا إلى ستة أشهر بعد الثانوية العامة فضلاً عن غيرها، و لا أحد يستطيع أن يزعم أن الحصول على الدكتوراه أسهل من الحصول على دبلوم التمريض، و لكن السبب أن القطاع الصحي عندما أراد أن يدرب درب بناءً على نموذج من خارج المجتمع، بينما التعليم العام استسلم لنظام المجتمع و اعترف به و قدَّره و لم ينازعه.

 

 
 
7

 

ما هو التأمين الصحي؟:-

          التأمين الصحي ليس سوى طريقة لتمويل الخدمات الطبية، و ليس هو النوع الوحيد بل هو أحد أنواع التمويل، بمعنى: من يدفع فاتورة العلاج؟. و هناك أنواع تمويل أخرى للخدمات الطبية منها:

 
 

  1. أن تتكفل الدولة بجميع تكاليف الخدمات الطبية من مواردها العامة و لا يتكلف غيرها بأي عبء. و ما هي الموارد العامة للدولة؟
    هذه يحددها النظام الاقتصادي الخاص بها، فإذا كانت رأسمالية فأهم مواردها الضرائب. و إن كانت شيوعية فأهم مواردها تأتي من ملكيتها المباشرة للموارد حيث لا تعترف بالملكية الخاصة. و أما في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي فهناك ملكية عامة و للدولة مواردها المعروفة. إذاً فتوفير سداد الفاتورة عن طريق المال العام يعتبر إحدى طرق تمويل الخدمات الطبية.
  2. أن يتكفل المريض بجميع تكاليف علاجه إذا احتاج فعلاً للعلاج فيدفع لمقدم الخدمة حينما يحتاج إليها (Fee for Service)   مثل ما يدفع مقابل السلع و الخدمات الأخرى كالمأكل و المشرب و المسكن و المركب و غير ذلك.
  3. قد يشترك المريض مع رب العمل في تحمل أعباء الخدمات الطبية. كحافز لاستقطاب العمالة الجيدة أو ربما للحفاظ عليهم أو لأنه يلزم به القانون أو النظام. كما يمكن أن يشترك في التمويل المريض و رب العمل و الحكومة في الوقت نفسه.
  4. قد يتكفل القطاع الخيري بجمعياته و المحسنون في تحمل تكاليف علاج الفقراء و المساكين.
  5. قد يكون تأميناً صحياً و هنا يدفع المريض و حده أو مشتركاً مع رب العمل قسطاً سنوياً إلى شركة تأمين ، و عندما يحتاج للخدمة الطبية تقوم شركة التأمين بدفع تكاليف الخدمات التي اتفقت معه على تغطيتها إلى مقدم خدمة و هو جهة ثالثة Third  Party   ليس هو المريض و ليس موظفاً عندها و لكنه قطاع ثالث تختاره شركة التأمين لتقديم الخدمات المحددة للمريض. فهنا يدفع المريض قسطاً سنوياً حتى و لو كان صحيحاً معافى و لا يتوقع أن يحتاج لأية خدمة ربما و لعدة سنوات.
    أما لماذا يسمون شركة التأمين بالطرف الثالث؟ فلأن الطرف الأول هو المريض الذي سيتقبل الخدمة و سيستفيد منها، و الطرف الثاني هو الذي سيقدمها، و هو الطبيب، أو المركز الصحي، أو المستشفى، و الطرف الثالث هو الذي سيدفع الفاتورة، حيث يفصل بين الذي يتلقى الخدمة و بين الذي يقدمها و بين الذي يمولها، و هذا الفصل مقصود و هدفه التخفيف من مشكلات تعارض المصالح بين المريض و شركات التأمين.
    و إذا قرر مجتمع ما أن يتبنى التأمين الصحي فإن هذا الخيار سيؤدي إلى ثورة كبيرة في القطاع الصحي، كيف؟ تحدث  ثورة في عرض الخدمات الطبية حيث ستختلف كماً و نوعاً، و ثورة في الطلب على الخدمات الطبية كماً و نوعاً، كما ستختلف الجودة، بل تحدث ثورة حتى في علاقة الطبيب مع المريض، و ربما سيأتي تفصيل بعض  هذه القضايا قريباً إن شاء الله تعالى.
    و الآن و قبل أن نتطرق إلى خصائص التأمين الصحي، دعونا نلقي بعض الضوء على طبيعة الخدمات الطبية لأن لها طبيعة متميزة عن السلع و الخدمات الأخرى.
     

     

    9

    خصوصية الخدمات الطبية:-

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

تتميز الخدمات الطبية من الناحية الاقتصادية بطبيعة خاصة، و من ثم فهي تتطلب معاملة خاصة فلا يمكن أن تُعامل مثل السلع و الخدمات الأخرى، و عليه  فلا يمكن أن يكون الربح و الخسارة هما المؤثران في توفير هذه الخدمات الإنسانية  و إلا تمكن أصحاب الأموال من ابتزاز الضعفاء و الفقراء في حالة مرضهم و ضعفهم. و أهم نقاط تميزالخدمات الطبية ما يلي:-
 

  1. إن الخدمات الطبية في جملتها ليست شيئاً كمالياً من شاء أخذه ومن شاء تركه، فهي ليست عطوراً أو أدوات تجميل و لا سيارات فارهة.
  2. إن الناس عادة يأتون إلى الخدمات الطبية في حالة الاضطرار، فقد يأتي الشخص و هو يحمل بين يديه طفلاً فاقداً للوعي، أو امرأة تنزف أو مريضاً مرضاً مزمناً متعباً، فهو أقرب ما يكون إلى حالة الإكراه و الإلجاء التي تجعله الطرف الأضعف في عملية المبادلة فيكون في غير حالته المعتبرة شرعاً من حيث الرضى و ذلك بسبب ضغط و إلحاح الحاجة.
  3. لو قارنّا وضع الخدمات الطبية بالسلع الأخرى لوجدنا الأمر مختلفاً، فالذي يذهبلشراء سيارة مثلاً له معرفة بما يريد و بجودة ما يريد و بضمان منفعة ما سيحصل عليه أو إمكانية استعادة ما دفع إذا لم يكن عالي الجودة أو يحقق المنفعة المطلوبة أو المتوقعة أو الموعودة. أما في حالة الخدمات الطبية ففجوة المعرفة بين المريض و بين من سيقدم له الخدمة كبيرة جداً. فالسيارة لها بائع يريد تسويقها و المشتري يأتي غالباً في حالته المعتبرة شرعاً بدون ضغوط، نقوده في جيبه و عنده معلومات كبيرة و يستطيع أن يحضر معه ميكانيكي خبير و يستطيع أن يستعين بأصدقائه و أقاربه وربما كانت معلوماته تقارب و قد تفوق معلومات البائع، يستطيع أن يفحص و يميز الحقائق من الادعاءات أما المريض فليس له شيئاً من ذلك إذ أن حاجته الصحية ألجأته إلى التعامل مع المجهول بدون أي ضمانات للنتائج فهو يجري خلف وعود ظنية.
  4. إضافة إلى أن العلاج مليء بالظنون و التجارب. فعلم الطب علم مليء بالغموض في النتائج و عدم الدقة، فالآن في بريطانيا يقولون أننا لن ندفع إلا مقابل ما هو ثابت علمياً من أنواع العلاج، ولقد وجدوا أن غير الثابت علمياً يصل إلى حوالي 76%من الممارسات الطبية. أنت لا تعرف هل نقودك التي ذهبت –مهما كثرت- ستعطيك نتيجة أم أنها لن تعطي نتيجة، و خاصة أن الأطباء يأخذون مقدماً وليسوا محاسبين على نتائج أعمالهم، و ليس هناك ضمان لا على الجودة و لا على النتيجة فالأمر ليس مثل ما يحدث عندما تشتري سيارة حيث يعطونك ضمان لمدة أربع أو خمس سنوات، كما يعطونك صيانة، فأنت تحصل على سلعة منضبطة المواصفات، أما في الطب فليس هناك أصلاً تجانس في المخرجات. و أنت ذاهب إلى الطبيب لا تدري إلى أي شيء سينتهي الأمر فقد يقول لك –مثلاً- أنت مجهد اليوم اذهب إلى البيت و ارتح و غداً بإذن الله ستنهض مثل الحصان أو قد يقول لك لا تستطيع الرجوع إلى بيتك يجب أن تدخل إلى غرفة العمليات الآن لإجراء عملية كبيرة.
  5. و تأتي قضية كبيرة أيضاً و هي أن المريض يذهب طالباً للخدمة الطبية من خلال شخص آخر هو الطبيب الذي يقوم بتحديد نوع الخدمة فيطلب نيابة عنه و هذا الطبيب نفسه هو من سيقوم بالبيع أيضاً في الوقت نفسه فهو يقوم بدور مزدوج يشتري بالوكالة عن المريض و يبيع أصالة عن نفسه. فإذا كان للطبيب أهداف أخرى أو تعارضت مصلحته الخاصة مع مصلحة من سيشتري نيابة عنه و سيبيع له أصالة عن نفسه في وقت واحد، أو حين لا يكون هناك نظام صارم يحدد له الحدود التي يعمل في نطاقها و يحمي المرضى، و هو أمر بالغ الصعوبة فإن أموال الناس و ربما حياتهم تصبح معرضة للهدر و الخطر.
    و لك أن تتخيل شخصاً يذهب إلى صاحب معرض سيارات ليقول له اختر لي السيارة  التي تشاء ثم أخبرني عن المبلغ الذي يجب عليّ دفعه ثمناً لها، أليس هذا هو بالضبط ما يفعله الناس عندما يذهب أحدهم إلى الطبيب فيقول له من ماذا أعاني؟ ثم يستسلم للعلاج، ليفاجأ بحجم التكاليف عندما يرى الفاتورة الجاهزة للدفع ليدفع بلا نقاش.
    و الاقتصاديون يعلمون أنه من ضمن النظريات القديمة للمدرسة الكلاسيكية و هي إحدى المدارس الاقتصادية أن هناك نظرية تقول: إن العرض يولد الطلبSupply Creates Demand  و معناها اعرض ما شئت فسيطلبه الناس وقد ثبت عدم صحة هذه النظرية بعد الكساد الكبير منذ الثلاثينيات الميلادية من القرن العشرين، و لكن لسوء الحظ ما زالت هذه النظرية عملياً صحيحة في القطاع الطبي، و لهذا كل ما توسع القطاع الطبي كلما زاد الطلب على خدماته، فكلما فتحت أسرة مستشفيات كلما سرعان ما تملأ، أما لماذا؟ فلأن الذي يطلب هو الذي يعرض، فإذا فقدنا الثقة فيه أصبحت مشكلة خطيرة  نتيجة لتعارض المصالح الاقتصادية و غيرها.
  6. و بسبب هذه الطبيعة الخاصة للخدمات الطبية اهتم البشر منذ أقدم الأزمنة بالجانب الأخلاقي في مهنة الطب فعمدوا إلى تدريس أخلاقيات تلك المهنة للأطباء و أصبحت جزءاً من متطلبات ممارسة المهنة و لا نجد أخلاقيات المهنة تدرس إلا للأطباء.و ذلك لأن الطبيب في حقيقة الأمر مؤتمن على أموال الناس و دمائهم بل و أعراضهم فإذا لم يكن موضع ثقة حقق من وراء عمله مصالحه الخاصة على حساب أموال الآخرين و دمائهم و ربماأعراضهم.
  7. و جود تعاطف كبير من قبل الناس مع كثير من المرضى مما يجعلهم على استعداد للبذل من أجل رفع معاناة الآخرين.
  8. أن الفقر و تدني مستوى الدخل هو أحد أهم عوامل المرض و الحاجة إلى الخدمات الطبية فلا يمكن ربط الحصول على الخدمات الطبية بالدخل و إلا أدى ذلك إلى مآسيٍ و معاناة. و هذه نقطة مهمة بالنسبة للتأمين، أنت لا تذهب و تشتري عطراً و تقول أنا مضطر للعطر لأنه كمالي، و لكن أنت تذهب و تطلب الخدمة و أنت مضطر و في حاجة لها و إذا ربطنا حصولك على الخدمةبقدرتك على الدفع تضررت "فئة الفقراء" لأن الفقر أصلاً أحد أهم أسباب المرض.
  9. من أجل كل ما سبق و غيره من الخصائص يرى الكثيرون أنه يجب معاملة الخدمات الطبية معاملة السلع و الخدمات العامة من حيث تدخل الحكومات لتوفيرها و الإشراف عليها، لأن القطاع الخاص لا يمكن أن يوفر احتياجات المجتمعات كماً و كيفاً خاصة و أنها من المتطلبات الأساسية الضرورية و التي ينبغي أن تكون في مقدمة ما ينفق عليه المال العام.
     
    و بعد التطرق إلى خصائص الخدمات الطبية دعونا نعود مرة أخرى إلى التأمين الصحي و التعرض لبعض التفاصيل.
    علمنا أن التأمين الصحي من الناحية الاقتصادية:  هو نوع من أنواع تمويل الخدمات الطبية، الذي يجري العمل على نشره بشكل مكثف ليحل محل الأنظمة الصحية الموجودة. و الكثيرون يأملون أن يحوي هذا النظام حلولاً  لمشكلات القطاع الصحي المزمنة مثل انخفاض الخدمات كماً و نوعاً و موارداً وإدارة، و الازدحام، و طول الانتظار، و نقص الأطباء و الفنيين و الأجهزة و المرافق...الخ. و لكن الغالبية في الحقيقة لا تعرف الكثير عن حقيقة هذا النوع من الأنظمة، كما يجهلون الآثار المترتبة على تطبيقه.  و الواقع أن له أثراً عظيماً ليس على القطاع الصحي فحسب بل و على قطاعات المجتمع الأخرى.
    بدايةً و نحن نتكلم عن "التأمين الصحي في مجتمع إسلامي" لابد أن نذكر أن هناك أكثر من نوع من أنواع التأمين، فهناك ما يسمونه "التأمين التجاري" و آخر يسمى "التأمين التعاوني" فما الفرق بينهما؟ و ما الذي ساد و انتشر أو سينتشر؟

     

    10

    أولاً: هذه التسمية "التأمين الصحي التعاوني" من أين أتت؟، حيث لم تكن ضمن أدبيات اقتصاديات الصحة و لا أدبيات الطب. لعلها جاءت من قرار هيئة كبار العلماء رقم 51 في 4/4/1397هـ و الذي نصه:-

     

     
     

     

 

 

 

         

 

 

 

إذاً "التأمين التعاوني" من عقود التبرع التي يقصد بها أصالةً: التعاون على تفتيت الأخطار و الاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث و ذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين لا يستهدفون تجارة و لا ربحاً من أموال غيرهم و إنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم و التعاون على تحمل الضرر –و أنا تعمدت أن آخذ هذا القرار من نشرة للأطباء و ليس من نشرة للعلماء كما يبدو المرجع في أسفل القرار- إذاً هذا هو التأمين التعاوني و هذه شروطه.  لكن لسوء الحظ عندما جاء التطبيق نسيت أغلب هذه الشروط، و لم يؤخذ من التأمين التعاوني إلا الاسم. ما هو الدليل؟ و الدليل بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء حول التأمين التجاري و التأمين التعاوني, و هذا نص البيان و مرجعه في أسفله:

 

           
   
   
11
 
 
12
 

 

 

 

 

 

 

         

 

 

 

 

 

 

 

"الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على آله و صحبه أما بعد.. فإنه سبق أن صدر من هيئة كبار العلماء قرار بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه لما فيه من الضرر و المخاطرات العظيمة و أكل أموال الناس بالباطل و هي أمور يحرمها الشرع المطهر و ينهى عنها أشد النهي، كما صدر القرار من هيئة كبار العلماء بجواز التأمين التعاوني و هو الذي يتكون من تبرعات المحسنين و يقصد به مساعدة المحتاج و المنكوب و لا يعود بشيء على المشتركين لا رؤوس أموال و لا أرباح و لا إيعاد استثماري لأن قصد المشترك ثواب الله تعالى و لم يقصد عائداً دنيوياً و ذلك داخل في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان} و في قول النبي      "و الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، و هذا واضح لا إشكال فيه. و لكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات و الشركات تلبيساً على الناس و قلب الحقائق، حيث سموا التأمين التجاري المحرم تأميناً تعاونياً و نسبوا القول في إباحته إلى هيئة كبار العلماء من أجل التغرير بالناس و دعم شركاتهم، و هيئة كبار العلماء بريئة من هذا العمل كل البراءة، لأن قرارها واضح في التفريق بين التأمين التجاري و التأمين التعاوني، و تغيير الاسم لا يغير الحقيقة ولأجل البيان للناس و كشف التلبيس و دحض الكذب و الافتراء صدر هذا البيان.

                                  و صلى الله على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين"...

                                                                         سماحة الإمام عبد العزيز بن رحمه الله...

          هذا صدر بعد عدة سنوات من التطبيق فهل التأمين التعاوني بالشروط التي رأيتموها طبق؟ كلا لم يطبق. و كل الذي ترونه في السوق هو مثل الذي صدر في البيان فيه مخالفات لا نريد أن ندخل في تفاصيلها حتى لا نضيع الوقت، مع أن تفاصيلها مثبتة و معروفة و مشهورة، فيكفينا هذا حول هذه النقطة و من أراد الاستزادة فليرجع إلى الأنظمة المنظمة لمثل هذه الشركات ليتبين أن ما تقوم به هو من النوع التجاري.

          التأمين التعاوني بهذا الوصف لم نر أحداً طبقة فهل له مثال عملي؟ نعم مثاله الوحيد هو صناديق العوائل، أو صناديق القبائل أو المهن، فالأغنياء في العائلة أو في القبيلة يتبرع الواحد منهم و هو لا يقصد ربحاً أو تجارةً، بل يقصد أن يكفل و يتكافل مع  فقراء  أسرته أو قبيلته، فهذا الذي ينطبق عليه التأمين التعاوني و هذا النوع لم يصل في تطبيقه العلمي إلى أكثر من حدود القبيلة أو العائلة أو الأسرة.

          و لكي نحكم على التأمين الصحي السائد من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية و الطبية و نقيس آثاره دعونا نتكلم عن مواصفات النظام الصحي الجيد: من وجهة نظر اقتصاديات الصحة و وجهة نظر المجتمع فعن طريق ما يفترض وجوده في النظام الصحي الجيد يمكن أن نحكم على نظام التأمين الصحي بطريقة موضوعية منصفة.

          عند إرادة تأسيس نظاماً صحياً جديداً أو تغيير النظام الصحي لابد من التأكد من توفر الشروط الضرورية التالية:-

 

       
   
 
13
 

 

 

 

 

 

 

فالمجتمع المسلم و المجتمعات السويَّة كلها يُفترض في نظامها الصحي:-

 
 

1.أن يقدم خدمة لجميع أفراد المجتمع بدون استثناء و لا تحيز و لا طبقية فلا يُقبل أن يترك بعض أفراد مجتمعها يمرضون أو يموتون أو يعانون.

 

2.كما يفترض في النظام الصحي الجيد أن  تتوفر فيه جميع مستويات الخدمات الطبية، و ماذا نقصد بها؟ لدينا الخدمات الأولية، و الخدمات الثانوية (خدمات المستشفيات)، و الخدمات التخصصية أضف إليها الوقائية و التوعوية...الخ. فإذا لم تتوفر كل المستويات لكل الناس فهذا شيء ليس جيداً.

 

3.أيضاً يفترض أن يكون هناك جودة عالية، و نقصد بالخدمات الطبية ذات الجودة العالية: أن تكون الأدوات و الأجهزة ذات تقنية جيدة، و الأطباء مدربين تدريباً جيداً، و مختارين بعناية وفق معايير الكفاءة.

 

4.و أخيراً يجب أن تكون تكاليف الخدمات سواءً على الأفراد –إن كان لابد أن يتحملها الأفراد- أو على المجتمع تكاليف مقبولة.

هذه الشروط الأربعة أعتقد أنها عادلة و كل المجتمعات يفترض ألا تفرط فيها.

 
 

انعكاسات هدف شركات التأمين و سلوكياتها على الخدمات الطبية:-

          عندما تتبنى المجتمعات "التأمين الصحي" ما الذي يحدث؟ هل ستتحقق مثل هذه الأهداف و المواصفات للنظام الصحي الجيد؟  لنرى:-

 

       
   
 
14
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1-أول ما يلاحظ هو أن هدف شركات التأمين من تقديم هذا النظام سيختلف عن هدف المريض و سيختلف عن هدف الدولة أو المجتمع. تعلمون أن المريض عندما يذهب للحصول على الخدمات الطبية أو عندما يدفع مقابلها فإنه يريد رفع معاناته فقط، و ربما يبيع منزله أو ما يملك لهذا السبب. وهذا هو هدف الدولة أيضاً عندما توفر خدمات للمجتمع، أما شركات التأمين فهدفها الوحيد الربح. و هذا الهدف يسبب  مشكلات كبيرة في القطاع الصحي، لماذا؟ لأنكم إذا رجعتم إلى الشروط التي ينبغي أن تتوفر في النظام الصحي الجيد، ستجدون الجودة العالية أحد الأهداف، فإذا كانت الأجهزة الجيدة و الأطباء المميزين تزيد التكاليف فإنها تخفض الأرباح  لأن تعريف الربح هو الإيرادات مطروحاً منها التكاليف، فإذا زادت التكاليف قلت الإيرادات و بالتالي انخفضت الأرباح و تعسر الوصول للهدف، و لهذا تجدون شركات التأمين تختار من الخدمات التي تغطيها الخدمات قليلة الكلفة ضعيفة احتمالية الطلب و الحدوث، أما الخدمات المؤكد أنها ستطلب أي يقينية الحدوث فإن التغطية التأمينية لا تشملها و لو لم ترتفع معاناة المواطن و هذه قضية أساسية.

 

2-و لذا فإن  أهداف الدولة تتوافق مع أهداف المريض نفسه و الجمعية الخيرية أما شركة التأمين  فتهدف بالدرجة الأولى إلى زيادة أرباحها، أي تحقق هدفها عندما تتهرب من أكبر خدمات ممكنة حتى لو كانت في منتهى الضرورية و يحتاجها المرضى بشدة. و لهذا فشركات التأمين تتهرب بشتى الطرق من دفع تكاليف علاج  المرضى و لذا نجدها من أكبر المستفيدين من خدمات المحامين و القانونيين سواء لكتابة العقود صعبة الفهم كثيرة الثغرات أو لإيجاد ثغرات تعفي الشركة من التزاماتها أمام ذلك المريض الضعيف.

 

3-ثم هي تختار الأطباء و المستشفيات ليس بمعيار الكفاءة و لكنها تختار من يثبت أن فواتيرهم أقل، و لهذا فإنه لا يمكن  تقديم خدمة جيدة للجميع في ظل التأمين، لأن الخدمات الجيدة و الأطباء المخلصون ستكون تكاليفهم عالية مما يخفض من أرباح شركات التأمين مما يؤدي إلى استبعادهم. و تتوجه شركات التأمين إلى اختيار ما يخفض لها التكاليف من خلال الأساليب الإدارية أو في اختيار الأطباء أو المستشفيات أو الأدوية و طرق العلاج، بعيداً عن معايير الجودة و لو أدى ذلك إلى زيادة معاناة المريض. فقد يستمر المريض على علاج دوائي لمدة طويلة أو بشكل دائم بينما هو يحتاج إلى تدخل جراحي و ذلك لأن الأخير سوف يؤدي إلى مضاعفة تكاليف العلاج، فيُترك يعاني من المرض ربما لسنوات عديدة من أجل التوفير في فاتورة التأمين.

 

4-ثم هي تستبعد كبار السن حيث يستبعد التأمين الصحي أو ما يسمى بالضمان الصحي من تجاوز عمره 65 سنة مع أنه معلوم أنه بعد هذه السن تزيد حاجته إلى العلاج كما يستبعد التأمين ذوي الأمراض المزمنة و العاهات العقلية و العصبية و النفسية و مرضى الحوادث و غيرهم الذين يستبعدون لأن هدفها الربح و ليس رفع المعاناة. إذاً فإن ما يقدم و يعرض من خدمات طبية تحت مظلة التأمين يعتبر ناقصاً حيث لا يغطي الكثير من احتياجات المجتمع (انظر قائمة الأمراض التي يستثنيها التأمين المحلي) والتي ستأتي لاحقاً.

 

5-ثم هي تلزم المريض بدفع جزء من الفاتورة عند كل زيارة لطبيب (وهو ما يسمى بـ  "الاقتطاع") و معناه أنه يجب على المريض المؤمن عليه أن يدفع ما يصل إلى 20% من تكلفة الطبيب و هي نسبة قد تصل إلى ربع دخل العامل البسيط و هدفها الحد من الطلب على الخدمة، و ينتج عن ذلك انخفاض طلب الناس على الخدمات الطبية حتى الضروري منها، خاصة الفقراء عند ثقل هذه النسبة عليهم. و لهذا فالفقير المدقع إذا ألزم، سيكون بين أمرين أحلاهما مر، إما أن يبقى دون خدمة ضرورية أو أن يضحي بقوت أولاده إن كان عنده مقابل هذا الاستقطاع أو قسط التأمين. و هذا قيد يحد من طلب الناس، خاصة الفقراء فيحجمون عن طلب الخدمة، خاصة عندما لا يكون عند الشخص وعي بحجم الخطر الصحي فلا يتقدم لطلب الخدمة الطبية إلا و قد استفحل الأمر و صعب علاجه، و في هذا هدر اقتصادي ضخم و معاناة شديدة.

 

6-ثم إن شركة التأمين تجعل سقفاً لأعلى مبلغ تدفعه فلا تتجاوزه مهما كان العلاج ضرورياً بعده.

 

7-إلا أن من أهم القضايا هنا هي أن التأمين يربط بين حصول المريض على الخدمات الطبية التي يحتاج أو قد يحتاج إليها و دخله فهي تميز بين الناس بناءً على دخولهم فمن لا يستطيع دفع الأقساط فليس له أمل في الحصول على الخدمة و لهذا  نرى في الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي الدولة الأولى في التأمين التجاري في العالم،  حوالي أربعين مليوناً (40.000.000) من البشر هم أفقر من أن يحصلوا على أي تغطية تأمينية بسبب الفقر و أربعين مليوناً آخرين أرشد اقتصادياً من أن يشتروا بوليصة تأمين (لأن التأمين الصحي اختياري عندهم) و لو كان مجتمعهم إسلامياً لربما وجد أربعين مليوناً آخرين يرفضون التأمين للأسباب الأخرى. أما لماذا الكلام عم أمريكا فلأنها الدولة الأولى في التأمين الصحي الأكثر شبهاً بما هو موجود الآن في الساحة. إذاً فالتأمين الصحي نظام يُوجِد طبقات في المجتمع تستبعد من الخدمات الطبية في حين أنها أشد طبقات المجتمع حاجة إلى هذه الخدمات لأن الفقر وحده أحد أهم أسباب المرض. و قد لا تستبعدهم كلياً فتقدم لهم من الخدمات ما يوازي قدرتهم على الدفع و لكن يبقى أنها تستبعدهم من الخدمات الحقيقية و الجيدة و ذات التكاليف العالية التي يحصل عليها الأغنياء، إذاً هو نظام غير عادل، لأن الفقير سيئ التغذية و المسكن و الملبس و البيئة و يكون عرضة للأخطار الصحية المختلفة.  و هذه الطبقية قد تقبلها بعض المجتمعات الرأسمالية إلا أن المجتمعات السَوِيَّة لا يمكن أن تترك ضعفاءها و فقراءها عرضة لما يهدد حياتهم و فيها من يستمتع بالغنى و الرفاهية و مختلف  وسائل الترفيه.  و لهذا نرى  بعض أكبر الدول الرأسمالية مثل بريطانيا، قد رفض عقلاؤها منذ القدم ربط دخول الناس بمستوى الخدمات الطبية التي يحصلون عليها و جعلوا الحاجة الفعلية للخدمات الطبية هي التي تحدد كمَّ الخدمات الطبية و نوعها فقط،  و لهذا فهم يقدمون خدمات متساوية لكل الناس حتى الأجانب المقيمين بغض النظر عن دخولهم في ظل ما يعرف بـ NHS  أي نظام خدمات الصحة البريطانية ((National Health Services  حيث لا  يستبعد الفقراء و لا غيرهم.

 

8-و في ما يتعلق بشكل العلاقة بين الطبيب والمريض فإن الأطباء في أغلب  أنحاء الأرض يؤدون القَسَم بأَن يكونوا وكلاء أمناء يخدمون المريض و يجعلون مصلحته هي الأولى و لكن شركات التأمين تضغط على ذمم الأطباء و ضمائرهم ليعملوا لحسابها، فيصفوا العلاج والدواء الأرخص ولو كان قليل الجدوى ويستبعدوا بعض الفحوصات الطبية الضرورية لأنها مكلفة. و مما يزيد الأمر سوأً قيام أصحاب المستشفيات كذلك بالضغط على الأطباء للمحافظة على العقود مع شركات التأمين فيكون الضغط على الأطباء مزدوجاً, ضغط المستشفى وضغط شركة التأمين الذي قد يكون مباشراً, وفي النهاية فالضحية هو المريض و ذمة الطبيب.

فالحصيلة التي يمكن توقعها هي أن التأمين يجعل الطبيب بدلاً من أن يعمل لمصلحة المريض ووكيلاً عنه كما هو متوقع وما يوحيه عليه الضمير والخلق والدين, يجعله التأمين وكيلاً لشركة التأمين يبحث لها عن الربح عن طريق اختيار أرخص الأدوية وطرق العلاج ولو كان مضراً للمريض وعلى حساب صحته لئلا تخسر شركة التأمين ولئلا تفقد مستشفاه أو عيادته عقدها لمعالجة من تحولهم إليها شركة التأمين. فإذا ارتفعت التكاليف غضبت شركة التأمين و أنهت عقدها مع المستشفى أو الطبيب (ليفقد أحدهم أهم مصادره المالية) وذهبت إلى مستشفىً آخر أرخص بغض النظر عن مستواه ونفعه للمرضى. و من المعلوم للعاملين في الميدان أن شركات التأمين تسلم لمقدمي الخدمة قائمة بالأدوية التي ترفض الدفع عنها و تسلم لهم قائمة أخرى بالأدوية الرخيصة,  وهذه قضية خطيرة تخرج الطب من الإنسانية وتًفقد الثقة بين المريض والطبيب و الذي هو في الأصل رجل ثقة مؤتمن يفترض أن يبحث عن مصلحة المريض فحسب ويجعلها فوق كل اعتبار حيث قد أقسم القسم الطبي الشهير أن يعمل لمصلحة المريض فقط وليس لمصلحته هو ولا مصلحة أي طرف آخر لا شركة تأمين ولا مستشفى ولا غيرها, هذه العلاقة الإنسانية الرفيعة يهزها نظام التأمين بشدة وعنف.

     9-  كما أن التأمين يرفع تكاليف الخدمات الطبية ليس على المريض فحسب بل على الحكومات و  المجتمع ككل حتى على من لا تشملهم التغطية التأمينية لأنه يرفع أسعار الخدمات الطبية بشكل عام و هذه قضية مهمة حيث يتوهم البعض أن التأمين يخفض التكاليف و الأسعار و الذي يحدث هو العكس فمثلاً نجد أن 11% من الناتج القومي الأمريكي _و أمريكا هي أم التأمين الصحي التجاري_  ينفق على الخدمات الطبية رغم هزال تلك الخدمات و طبقيتها، بينما لا يذهب إلى الخدمات الطبية إلا حوالي 7% من الناتج القومي البريطاني مع أن بريطانيا كانت تقدم الخدمات الطبية للجميع بلا استثناء حتى للأجانب و تقدم جميع مستويات الخدمة و ذلك أن نظامهم كان يهدف إلى عدم ربط دخل الشخص مع الخدمة الطبية التي يحتاجها.

10- كما أن التأمين الصحي لن يؤدي إلى تخفيف الأعباء الإدارية بل سيزيدها مع الأعباء الرقابية و الإشرافية على الدولة, حيث ستترك لها شركات التأمين الحالات المستعصية والمكلفة والتي عادة ينفق عليها حوالي ثلاثة أرباع ميزانيات وزارات الصحة في العالم. و ستوجد لها مشكلات جديدة تحتاج إلى نظام قضاء ليحكم فيها. ولن تستطيع التخلي عن كل هذه المسؤوليات ولابد لها أن تضطلع بها. و بالطبع لا يمكن إلزام المجتمع بأنظمة ثم العجز عن إعطائه بعض حقه في ظلها بسبب القصور الفني أو الإداري أو الإشرافي أو الرقابي أو النظامي. 

و بعد فهذه آثار متوقعة لأنها تحدث وحدثت في ظل التأمين, فهل مع كل هذا يمكن أن يتوقع للتأمين الصحي أن يكون نظاماً صحياً يخدم الأهداف المتوقعة منه سواءً للمريض أو الحكومة أو المجتمع ؟!.

كما أنه من المتوقع حدوث آثارٌ أكثر سلبية في المجتمعات الإسلامية من جراء تطبيق التأمين الصحي، و ذلك لأن التجربة التاريخية للمجتمعات التي طبقت التأمين تفيد أن مثل هذه السلبيات قد حدثت عندها رغم أنها استكملت أولاً تأسيس أنظمة و إجراءات و مؤسسات قوية قبل التطبيق و هي ما تفتقده الكثير من الدول الأخرى قليلة الخبرة في مجال الخدمات الطبية. و هذه الإجراءات بالتأكيد قد خففت من الآثار السلبية للتأمين الصحي و لكنها لم تمنع حدوث الآثار السابقة و من هذه الإجراءات ما يلي:-
 

  1. وجود نظام تسعير للخدمات الطبية لمنع تلاعب المستشفيات وشركات التأمين بالأسعار, فيعرف المريض والطبيب والمستشفى و جميع أفراد المجتمع بأن هناك سعر محدد ثابت لكل خدمة، حيث أنه بدون سعر مدروس و محدد بشكل صحيح وواضح لم يكن بالإمكان أن يطبق التأمين؟.
  2. تحديد الإجراءات الطبية لكل حالة مرضية حيث لا تترك الإجراءات للاجتهادات المطلقة غير المبررة علمياً, فمثلاً لا يأتي رجل يشتكي من مغص في بطنه فيطلب منه منظار للمعدة و منظار للأمعاء و فحوصات مخبرية و نحو ذلك, مما يرفع كلفة العلاج بلا مبرر منطقي. إذاً فقد تم تثبيت وتحديد الإجراءات بدقة مثل ما يحدث في بعض البلدان ومنها اليابان حيث يَحِق لكل شخص أن يطلب العلاج في أي مركزٍ صحي أو عند أي طبيب ثم يحال الملف بالتشخيص والعلاج إلى لجنة طبية فنية تتأكد أن الإجراء الطبي الذي قدم لهذا المريض هو وفقاً للمعايير والإجراءات الطبية المعتمدة و بعدها يحال إلى لجنة مالية اقتصادية تقول إن هذا الإجراء الذي كان صحيحاً وفق الإجراءات الطبية يستحق هذا المبلغ، وبعدها يصرف المبلغ إلى المستشفى أو الطبيب الذي قدم الخدمة. وفي هذا فصل بين مصلحة الطبيب المالية المباشرة ومصلحة المريض الصحية والمالية.
  3. وجود نظام فني طبي رقابي كفء يضبط المخالفات ويمنع حدوثها وهو ما تفتقده الكثير من الدول البائسة فلا يتوفر لديها أجهزة رقابية فنية قادرة على تشخيص وضبط المخالفات الطبية والفنيةلشركات التأمين والمستشفيات بحيث يعطى لكل ذي حق حقه النظامي، فعلى سبيل المثال، عند توفر الأنظمة و الأجهزة، يحال مئات الأطباء الأمريكان سنوياً إلى القضاء بسبب المخالفات في ظل التأمين.
    و عليه فإن الدولة التي لا يوجد لديها ما يماثل ذلك تتحول الأوضاع فيها إلى غابة يفترس فيها كل قوي الأضعف.
  4. وجود نظام قضائي عادل وموثوق به لفصل المنازعات الضخمة التي من المتوقع أن يولدها التأمين بين الشركات والمستشفيات من جهة وبين الشركات والمرضى من جهة وبين المستشفيات والمرضى والأطباء...الخ. خاصة والتأمين الصحي لا تقتصر مشكلاته على الأموال بل يتضمن أيضاً مشكلات في الأنفس والإعاقات و فقد الأعضاء وما إلى ذلك.
    فإذا  لم تكن الدول مستعدة أن تعطي الطرف الأضعف وهو المريض حقه فلا يمكن عقلاً ولا منطقاً ولا خلقاً أن يجبر على نظام وهو لا يستطيع في ظله أن يحصل على بعض حقه بطريق مشروع.
    و السؤال الذي يطرح نفسه الآن :- هل من المصلحة تطبيق التأمين الصحي على الرغم من عدم وجود الأنظمة و المؤسسات التي ساهمت في تخفيف مضاعفاته و تبعاته في الدول الأخرى  و على الرغم من كل هذه الآثار السيئة؟!.
    قد تسهل علينا الإجابة إذا نظرنا إلى ما تتضمنه وثيقة التأمين الصحي الحالية و ما تستثنيه من خدمات طبية.
                                                                                                   
    ما تتضمنه "وثيقة التأمين" التي تحكم العلاقة بين المريض و شركة التأمين:-
    علماً أن هذه الوثيقة قد صدرت مع اللائحة التنفيذية بقرار من وزير الصحة بتاريخ 27/3/1423هـ.

     

           
       
     
    15
     

     
     
     
     
     
     
     
     

أولاً تحدد اليوم و الشهر لبدء التغطية التأمينية و نهايتها و بدقة شديدة لا علاقة لها بمدة علاج المرض. كما تستبعد من يزيد عمره عن 65 سنة. و تستبعد الأبناء إذا زادت أعمارهم عن 18 سنة كي يدفعوا أقساطاً جديدة. تحدد الحد الأقصى للمبلغ الذي يدفع لعلاج الشخص و إذا زادت التكاليف عن ذلك المبلغ فلن يعالج. كما أن هناك نظام اقتطاع يؤدي إلى خفض الطلب على العلاج.

و هناك قائمة طويلة لما تستبعده الوثيقة من خدمات طبية فلا تغطية:- 

 

 

 

       
 
16
   
 

 

 

         

 

 

 

 

 

 

 

17

مثلاً الإصابات المتعمدة، فإذا كان طفلاً أو مجنوناً ماذا يفعل به؟!. أيضاً إساءة استعمال الأدوية و المنشطات و المهدئات و الكحول و المخدرات و ما شابه ذلك. و الجراحة أو المعالجة التجميلية –هذا موجود عندهم بالنص-  بعض الجراحات التجميلية ضروري. و الفحوصات الشاملة –و هذه تسبق أي عملية لكن لا يغطونها-. و اللقاحات و هذه لا يغطونها لأنها مؤكدة الحدوث، فكل طفل يولد يجب أن يأخذ سلسلة من اللقاحات فهذه لا تغطى. و العقاقير و الأدوية كلها بأنواعها. و الوسائل الوقائية فهم لا يهتمون بالوقاية فأكثر الذي يركزون عليه هي الخدمات الطبية الثانوية. كذلك لا يغطون ما يتلقاه الشخص بدون مقابل فإذا كانت المستشفيات الحكومية تعطيك خدمة مجانية فإنهم لا يغطونها لك. و أي علة أو إصابة مهنية أيضاً.

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

          أيضاً لا يغطون الأمراض التناسلية. و الأمراض التي تنتقل بسبب الاتصال الجنسي بدون تحديد لسبب الإصابة. و فيروس نقص المناعة. و زرع الأسنان. و تركيب الأسنان الصناعية. و تركيب الجسور للأسنان. و تقويم الأسنان. و مصاريف نقل المريض من غير سيارة الإسعاف المرخصة، فهل يترك حتى تأتي سيارة الإسعاف و لو مات؟!. و تساقط الشعر.

 

 

 
 

 

         

 

18

 

 

 

 

 

 

و صلع الشعر. و المعالجة النفسية. و الاضطرابات العصبية. و اختبارات الحساسية. و تنظيم النسل. و حصول النسل. و العقم. و العجز الجنسي. و نقص الخصوبة.

 

       
 
19
   
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

          و كذلك التلقيح في الأنابيب. و التلقيح الصناعي. و أي ضعف قبل بداية الوثيقة لا يحسبونه. و التشوه الخلقي. و البثور. و السمنة. و البدانة. و زرع البدائل الصناعية للأعضاء.

 

       
 
20
   
 

 

 

 

 

 

 

         

 

زرع النخاع. و المشكلات الصحية أثناء الحروب. و المشكلات الصحية أثناء الغزو. و المشكلات الصحية أثناء أعمال العدوان الأجنبي. و المشكلات الصحية أثناء الحرب الأهلية. و المشكلات الصحية أثناء العدوان. و الإشعاع النووي و التلوث. و ما يتعلق بإصابات السموم. و إصابات المتفجرات.

 

       
   
 
21
 

 

 

 

 

 

 

 

         

خدمة القوات المسلحة المشاركة. و المشاركة في أعمال القوات المسلحة. و خدمة الشرطة. و المشاركة في أعمال الشرطة. و الشغب و ما شابهه. و الإرهاب و ما شابهه. و الإضراب و ما شابهه...الخ، فهذا يكفي.

          إذاً، هذا ليس تأميناً تعاونياً خاصة و أنه إلزامي فلا يمكن أن يكون تعاونياً و إلزامياً في الوقت نفسه. و إن أردت التأكد فارجع إلى المادة الثالثة عشرة من نموذج النظام الأساسي لشركات التأمين لتجدها تنص على أنه: "يجوز للشركة بعد الحصول على موافقة الجهات المختصة أن تصدر بالقروض التي تعقدها سندات متساوية القيمة و قابلة للتداول و غير قابلة للتجزئة" انتهى و معلوم أنها قروض بفوائد ربوية.

 

التأمين الصحي و مبرراته المزعومة:-

 

يذكر بعض المتحمسين للتأمين الصحي عدداً من المبررات فدعونا نناقش طرفاً منها:-

أولاً:-

 يقال أن التأمين الصحي يسهم في رفع كفاءة القطاع الصحي الفنية و الطبية. و للجواب على هذا الوهم نقول: كيف للتأمين الصحي أن يرفع الكفاءة الفنية و الطبية و قد رأينا أنه:-
 

  1. يقلل من الخدمات المعروضة لأنه يستبعد الخدمات التي تكلف شركات التأمين أكثر، إذاً هو لا يقدم كل أنواع الخدمات الأولية و الثانوية و المتخصصة و الوقائية و التوعية الصحية، و بذلك يسهم في خفض المستوى الصحي للمجتمع.
  2. يقلل من الطلب، لأن الشخص المؤمن عليه لا يستطيع أن يطلب من مقدمي الخدمة خدمة لا يغطيها التأمين و إن فعل فستكلفه أضعاف سعرها المعتاد و ما قد لا يستطيع أن يدفعه لأن نظام التأمين من المتوقع أن يرفع المستوى العام لأسعار الخدمات الطبية سواء المؤمن عليها أو غيرها. إضافة إلى أنه بسبب "نظام الاقتطاع"يجبر المريض على دفع نسبةٍ إضافية من فاتورة العلاج، قد تصل إلى ربع دخل العامل البسيط و هذا يسهم مباشرة في خفض المستوى الصحي و المستفيد الوحيد منها شركة التأمين.
  3. كما أنه يهز ثقة المريض في المستشفى والطبيب و يضغط على ذمة الطبيب ليعمل لمصلحة شركة التأمين بدلاً من أن يعمل كما هو مفترض لمصلحة المريض و هو ما يمليه عليه ضميره و أخلاقيات المهنة و خلقه و دينه و العهد الذي التزم به، حيث تطلب شركات التأمين من مقدمي الخدمة عدم تحويل المرضى إلى المستشفيات إلا في الحالات الحرجة و إلا كانوا عرضة لإلغاء العقود. بل إن الحالات الحرجة الطارئة قد تنتظر في غرف الإسعاف مدداً طويلة انتظاراً لموافقة شركة التأمين على العلاج. و لك أن تتخيل ما الذي سيحدث للمريض إذا لم توافق.‍‍‍‍‍‍‍
    إذاً أين الكفاءة الفنية و الجودة المزعومة المبنية على أنظمة اعتماد المستشفيات إذا كان  النظام سيقود إلى  تجريب كل الأدوية الممكنة على المريض المسكين قبل أن يحال إلى الاستشاري أو إلى الجراح أو إلى أي علاج متقدم مكلف، هذا إن كان سيحال فعلاً.
  4. و من جهة أخرى يتم قياس كفاءة القطاع و النظام الصحيبمعايير دقيقة مثل نسبة الوفيات ونسبة الأمراض و معدل القضاء عليها و رضا المرضى ووقت انتظار المريض و نحوها. و كما مر سابقاً نجد أن كل واحد من هذه المعايير لا يتحسن في ظل التأمين و السبب في ذلك أن شركة التأمين تهدف إلى الربح عن طريق خفض ما ينفق على الصحة فقد يصل المريض إلى حالة متقدمة من المرض قبل أن يطلب العلاج ثم إذا طلب العلاج لا يذهب به إلى الأطباء و الأدوية و المراكز الصحية و طرق العلاج و إنما سيجرب فيه كل دواء رخيص لعله يمكن من خلاله تفادي طرق العلاج المكلفة و لو كانت أنجح و أكثر نفعاً مؤكداً.
  5. قد يقال إن التأمين مفيد لأنه يمكن أن يكون إلزامياً على الجميع بدون استثناء هذا نظرياً أما عملياً فإن ما سيغطيه التأمين العام الإلزامي هو فقط ما يسمى بالخدمات الأساسية وهي لا تكفي كل الاحتياجات ثم يقدم بعدها خدمات متميزة أعلى جودة وفي مراكز طبية أفضل لأولئك الذين يستطيعون دفع أقساط إضافية أعلى وهذه الأقساط عادةً ليست في متناول الفقراء وربما حتى ذوي الدخول المتوسطة خاصةً مع كبر حجم الأسرة، حيث تحتاج إلى مبالغ ضخمة إضافة إلى دفع أقساط تلك الخدمات الأساسية الإلزامية.
    وعليه فإن التمييز والطبقية حادثة لا محالة فتحول أفضل الخدمات و الأجهزة والأطباء إلى طبقة صغيرة من أفراد المجتمع و يترك أولئك الضعفاء و الفقراء  لمراكز متدنية الخدمات كثيرة الازدحام منخفضة التكاليف و التي تحيل عليها شركات التأمين.
  6. كما أن التأمين لا يغطي إلا الأمراض التي يضعف احتمال وقوعها أما الأخطار المحققة فلا يمكن أن يغطيها التأمين بل يرفضها, فمثلاً من كان عمره فوق 65 سنةفإنه يستبعد من التأمين مع أنه في أشد الحاجة للخدمات الطبية وكذلك أصحاب الأمراض الخطيرة و المزمنة و المستعصية بل إن التطعيمات للأطفال -على سبيل المثال- ، تُستبعد من التأمين رغم عظم منفعتها لأنها محققة الوقوع, إذ لابد لكل طفلمن تطعيم لا محالة، و في ذلك خسارة محققة لشركات التأمين فتستبعدها إن استطاعت, لأن هدفها الربح لا منفعة الناس.
     
    فأين هي الكفاءة الطبية و الفنية المزعومة؟!.
     
              ثانياً:-
    يقال إن التأمين الصحي يخفض تكاليف العلاج و يقلل موارد المجتمع التي تذهب إلى القطاع الصحي، أي أنه يرفع الكفاءة الاقتصادية للقطاع الصحي بحيث يحصل المجتمع على أعلى إنتاج بأقل التكاليف أو أنه يوظف موارد القطاع الصحي التوظيف الأمثل.
    و هذا الوهم أيضاً ليس صحيحاً للأسباب التالية:-
     

 

  1. إذا كان الهدف من التأمينتخفيف الأعباء المالية والإدارية على الدولة فإن الدولة لن تستطيع تخفيف أعباءها بالشكل الذي يبرر التأمين،خاصةً وإن عليها التزامات أمام مواطنيها فهي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن ضروريات حياتهم لأنه سيبقى لها المستبعدون من شركات التأمين الذين لا يحققون لها أرباحاً، من المسنين والمعاقين وضحايا الحوادث والحروب والأمراض المزمنة و العقلية و المرضى النفسيينو غيرهم.ولا يمكن لأي دولة أن تتخلى عن الأعباء المالية والإدارية و الرقابة و الإشراف على مثل هذه الحالات بشكل خاص أو على القطاع الصحي بشكل عام خاصة في ظل التأمين مهما كلف الأمر. ثم ستواجه في ظل التأمين مشكلات أخرى لا خبرة لها فيها و لابد لها من أن تتعامل معها. خاصةو أن هؤلاءالذينستتخلى عنهم شركات التأمين يُكلفونالدول –عادةً-حوالي ثلاثة أرباع ميزانية القطاع الصحي كله في حين تتولى شركات التأمين أولئك الذين هم في العادة لا يحتاجون أي نوع من الخدمة الطبية لسنوات عديدة لصغر سنهم و لاستبعادها ما يكلف من خدماتهم.
  2. كما أن التأمين يؤدي إلى رفع تكاليف الخدمات الطبية بالنسبة للمجتمع ككل، فكل من تستبعدهم شركات التأمين لأن تكاليف علاجهم عالية، فلابد للحكومات أن تعالجهم ولا تتركهم ليموتوا أو يعانوا وهذه الفئة عادةً تستهلك حصة الأسد من ميزانيات وزارات الصحة في العالم، فإذا جمعت تكاليف علاج هؤلاء مع مليارات أقساط التأمين مع ارتفاع أسعار جميع خدمات القطاع الصحي المتوقعة صارت الخسارة على المجتمع فادحة, وحملاً باهضاً. أضف إلى ذلك دفع الناس المؤمنين مقابل الخدمات التي ترفض تغطيتها شركات التأمين لأن شركات التأمين تنتقي الأصحاء كما تنتقي الخدمات قليلة كلفة العلاج و ضئيلة احتمالية الوقوع. ولهذا نرى دولة التأمين الأولى الولايات المتحدة الأمريكية تخسر على الصحة حوالي 11% من ناتجها القومي بينما تخسر دولة مثل بريطانيا أقل من ذلك بحوالي الثلث رغم أنها تعالج جميع مواطنيها والمقيمين الأجانب فيها بدون استثناء من مواردها العامة, ودون ربط بين دخولهم وعلاجهم. إذاً فالتأمين يرفع تكاليف الخدمات الطبية على المجتمع ولا يخفضها كما يتوقع البعض.
  3. إن مبالغ التأمين الضخمة و التي تبلغ المليارات و تفوق أضعاف ميزانيات وزارات الصحة يتسرب أكثرها خارج الاقتصاد على شكل ما يسمى بـ "إعادة التأمين" حيث تقوم شركات التأمين بإعادةالتأمين عند شركات عالمية أكبر،مما يسرب هذه المبالغ خارج الاقتصاد المحلي وكلما كبر المبلغ كلما أضعف القدرة الاقتصادية كما يعرف الاقتصاديون،خاصةً و أنه من المتوقع دخول الشركات العالمية بقوة في ظل العولمة لتحصل على حصة الأسد من هذه المليارات وستنتهي الشركات الوطنية المحلية إلى واجهة مكاتب صغيرة تأخذ عمولة بسيطة لصالح الشركات الضخمة.
  4. وإن قلنا جدلاً أن التأمين سيقلل التكاليف لعلاج بعض الحالات فإن هذا الوفر لن يكون عائداً على المريض نفسه ولا على القطاع الصحي العام بل سيكون عائداً لشركات التأمين وأرباحها التي تسربها عادةً إلى خارج الاقتصاد. فإذا كان هناك توفير وزيادة أرباح فلا يدخل جيب المريض منها شيء و لا خزانة الحكومة ولا موارد القطاع الصحي و إنما يذهب إلى التجار وشركات التأمين، علماً بأنه جاء على حساب صحة المريض وجودة الخدمات المقدمة له بدلاً من أن يذهب لرفع مستوى صحة أفراد المجتمع. فلا يستفيد من التأمين في الحقيقة إلا أصحاب شركات التأمين في الداخل أو الخارج و شركات "إعادة التأمين"، الموجودة كلها في الخارج.
     
    نخلص من كل ذلك إلى أن المشكلة هي في أن التأمين الصحي لا يحقق هدف المريض في توفير خدمة طبية  تتميز بالجودة و السعر المناسب و الزمان و المكان الملائمين. كما أنها لا تحقق هدف الحكومات في توفير الرعاية الصحية لجميع أفراد المجتمع بعدالة و بجودة عالية ترفع معاناتهم(انظر النظام الأساسي للحكم).  وليس من أهداف التأمين  تحقيق أهداف المجتمعات في توفير رعاية لكل فرد مهما اختلف مستوى دخله أو احتياجاته الصحية. و المستفيد الوحيد حقيقة من نظام التأمين هو شركات التأمين لأنها تحقق هدفها الوحيد و هو الربح فهي تفرض ضريبة على كل من تستطيع أن تفرضها عليه صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى فقيراً أو غنياً ثم هي تختار الأصحاء و الذين احتمالية طلبهم أو حاجتهم للخدمات الطبية منخفضة ثم هي تعلم أن نسبة صغيرة من هؤلاء هم من سيطلبون أو يحتاجون الخدمات الطبية ثم هي تعمل بشتى الطرق للتهرب من التزاماتها عند احتياج الشخص للخدمة الطبية فتنتهي وقد حققت هدفها و هو الربح على حساب أهداف المجتمع و الحكومة و الأطباء و المرضى و عادت بأموال طائلة كان من المفترض أن تذهب إلى القطاع الصحي ذي الموارد الشحيحة عادةً. كما أنها تعلم أنه غالباً فيما بين السنة الثانية أو الثالثة من العمر إلى حدود الأربعين سنة لا يحتاج الناس عادة لأية خدمات طبية تذكر فإذا استطاعت أن تفرض على الجميع أو على أغلب هؤلاء الأصحاء أقساط التأمين حتى لو دفعت في ما يبدو مبالغ كبيرة للبعض فإنها تنتهي بالحصول على مبالغ ضخمة للغاية بدون عناء لأن شركات التأمين تصنف من شركات الوساطة المالية حيث تأخذ أموالاً و تدفع أموالاً و لا تقدم أية خدمات طبية على الإطلاق بل إن الكثير من الدول تلزم شركات التأمين بأن لا تقدم أية خدمة طبية فهي تأخذ من المريض أو من الحكومة أو رب العمل أو منهم مجتمعين ثم تدفع لمقدم الخدمة (الذي هو الطبيب أو المستشفى) الذي تختاره هي وفق شروط تحددها هي بدقة. فهي لا تبني مراكز صحية و لا عيادات كما أنها تستبعد المستشفيات و الأطباء الذين لا يحققون لها أرباحاً و لو كانوا أجود الأطباء و أفضلهم في عملهم و تفانياً في خدمة المريض لأن هؤلاء المخلصين يقدمون مصلحة المريض على مصلحة شركة التأمين و هذا يناقض هدف الربح. إذاً نعود إلى السؤال الأول ما هو الهدف الحقيقي لتبني التأمين إذا لم يكن لمصلحة المريض وتحقيق أهداف الحكومات في توفير رعاية طبية جيدة و عادلة لجميع أفراد المجتمع للمواطنين و غيرهم.

     

    22

    إذاً فالتأمين الصحي لا يرفع لا الكفاءة الطبية و لا الاقتصادية و لا يقلل الأخطار و لا يخفف معاناة الناس بشكل مقبول و لكن سيعقد الأمور أكثر. و عليه نعود للسؤال الأول: ما هو الهدف الحقيقي إذاً من تبني مثل هذا النظام؟!!!.
     
    و الخلاصة أن التأمين الصحي بهذه الصيغة لا يناسب المجتمع الإسلامي لاحتوائه على:-

 

  1. الربا بنوعيه.
  2. الغرر الفاحش.
  3. < >أكل أموال الناس بالباطل و بدون مقابل حقيقي.
  4. أخذ مال المسلم بدون طيب نفس منه، خاصة عندما يكون إلزامياً.
  5. يولد الطبقية في المجتمع و يتحيز ضد المسنين و المعاقين و الفقراء و سائر الضعفاء في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إنما تنصرون و ترزقون بضعفائكم} رواه البخاري.
  6. يرفع تكاليف الخدمات الطبية و يخفض جودة الخدمات و ييسر الابتزاز.
  7. يؤثر سلبياً على عرض الخدمات الطبية و الطلب عليها.
  8. يضغط على ذمم الأطباء و يفقد الثقة فيهم و ينشر البغضاء.
  9. يسرب أموالاً ضخمة إلى خارج الاقتصاد الوطني.
     
    بدائل التأمين الصحي في مجتمع إسلامي:-
     
              إذا كان التأمين ليس نظاماً صحياً جيداً و لا يعمل على تكافل المجتمع و فيه ابتزاز للمريض و لا يغطي جميع الخدمات...الخ. فما البديل لمجتمع مسلم؟.

 

و قبل الكلام عن البدائل لابد من لفت الانتباه مرة أخرى إلى النقاط التالية:-
 

  1. التأمين التعاوني الذي صدر به قرار هيئة كبار العلماء السابق هو أشبه ما يكون بصناديق الأسر أو القبائل أو أصحاب المهنة الواحدة، حيث يقوم الموسرون الأغنياء من العائلة فقط بالتبرع لوجه الله تعالى، تخفيفاً و تكافلاً مع أقاربهم, وكل منهم يريد ما عند الله تعالى، فلا يريد ربحاً و لا استثماراً و يتمنى أن لا يحتاج هو إلى الصندوق. ثم إذا احتاج الضعيف أو الفقير كانت له الأولوية، هذا هو التكافل البعيد عن الربح و التجارة لا ما يوجد في السوق أو يراد له أن يوجد و إن سمي تعاونياً. حيث التعاوني يفترض أن يتوجه إلى الأكثر حاجة للعلاج و لا يحدد ساعة التغطية و لا يستبعد من يعجز عن دفع القسط أو يتهرب من الأمراض ذات التكلفة العلاجية المرتفعة.
  2. والقضية التي تثار لتبرير قيام التأمين الصحيتتعلق بأن هناك مشكلات في القطاع الصحي تتطلب حلاً، فهل نظام التأمين كما تمت مناقشته و اتضحت لنا خصائصه و مشكلاته هو الحل؟! وهل نحل إشكالاً بإشكال آخر،ربما كان أكبر منه؟!!إن الأسلوب العلمي في حل المشكلات يقتضي أن نحدد بالضبط ما هي مشكلات القطاع الصحي،ثم ندرس جميع البدائل التي يمكن أن تسهم في حل هذه المشكلات،ثم نختار أفضل هذه البدائل التي تعطي أعلى عائد و منفعة في ظل أقل التكاليف.و بكل تأكيد فإن هذا لا ينطبق على ما يقدمه التأمين و لا طريقة تحديده و نطاقه. فبلغة الأطباء: إن التأمين وصفة كتبت قبل تشخيص المرض، فلا غرابة أن لا يفيد الدواء بل يضر و يقتل.
  3. ومن الأمور التي يجب توجيه الانتباه لها أنه لا يمكن أن يكون البديل هو التأمين في ظل وضع إداري وفني متواضع وفي ظل عدم وضوح الإجراءات الطبية بدقةوفي ظل وجود مدارس طبية مختلفة و أطباء و مقدمي خدمة من دول كثيرة و مختلفة و في ظل عدم توحيد الأسعار وقصور فني وإداري وتقني وعدم وجود نظام عقوبات صارم وغياب الحوافز وعدم تهيؤ النظام القضائي الشرعي لفصل المشكلات الفنية التي ستنتج عن التأمين. كل هذا يجعل من المستحيل الحصول على أي نفع أو تحقيق هدف حقيقي من تطبيق التأمين هذا لو كان يصلح أصلاً لمجتمع مسلم، لأن ما يولد في مجتمع ما لحل مشكلاته عادة لا يصلح للتطبيق في المجتمعات الأخرى لاختلاف محددات سلوك البشر من معتقدات و عادات و تقاليد و ظروف وما إلى ذلك. فأن لكل مجتمع خصوصياته فلئن قَبِلت قيم و مبادئ بعض المجتمعاتنشوء الطبقية فيها و سمحت للأقوياء أن يستغلوا ضعف الضعفاء فإن المجتمعات السوية والإسلامية لا يمكن أن تقبل بهذا لأنه ليس خلقاً و لا عدلاً و لا إنسانية أن يستغل ضعف الضعفاء و فقر الفقراء لا ثراء الأثرياء من علاجو معاناة المساكين. بل إن النظام الصحي الإسلامي تاريخياً كان يوقف الأوقاف و يرسل الزكوات و الصدقات للقطاع الصحي لخصوصيته.
  4. و هناك نقطة أساسية أخرى و هي لماذا الاعتراض على الحصول على أرباح لقاء الخدمات الطبية باسم التأمين إذا كانت الشركات التي تعمل في القطاعات الخدمية تحقق أرباحاً كبيرة, مثل الإسكان أو النقل أو أي خدمة أخرى.فلماذا الاعتراض هنا؟!. الحقيقة أن سبب الاعتراض هو الطبيعة الخاصة للخدمات الطبية كما أوضحنا حيث أن هذه الخدمات ذات صبغة إنسانية تكافلية و يجب أن تبقى كذلك و لا يجوز أن تكون موضع تجارة.
  5. و بإقرارنا للتأمين فكأننا نمسك الفقراء للأغنياء لكي يفرضوا عليهم ضريبة لمصلحتهمو هو نوع من الظلم لأنه لا يحقق الفائدة المرجوة للمريض و هذا مخالف لأبسط قواعد العدالة بل إن التأمينيزيل الوجه الإنساني للخدمات الطبية التي تقتضي خصوصياتها أن تبقى إنسانية و لا تحتمل لا بالمنطق و لا بالعقل و لا بالخلق القويم أن يستفيد شخص من معاناة الضعفاء و الفقراء ويُثري على حسابهم بل و يتركهم عرضة لكل خطر في حالة فقرهم و عجزهم.ثم ما هو ذنب رب العمل الذي ينتقي عماله واحداً واحداً أصحاء أقوياء أن يدفع ضريبة ضخمة لشركة التأمين مقابل خدمة لا يحتاجها و تنقص من أرباحه، ألا يؤثر هذا على حجم الاستثمار و الاستمرار فيه و الأسعار النهائية للسلع و الخدمات التي سوف يدفعها المواطن؟!.
  6. ثم إذا كانت موارد البلد الاقتصادية كبيرة ووفيرة و خاصة الموجهة إلى الصحة من قبل جميع الجهات الطبية الحكومية و الخيرية كما هو الحال في بعض البلدان, فلو أن بعض هذه الموارد أحسنت إدارتها و توزيعها لما احتاجت كثير من الدول إلى موارد إضافية أصلاً، لأن هناك دولاً تدير مواردها الصحية الأقل بشكل أفضل و تحصل على نتائج طبية أفضل بكثير. و هذه الموارد الضخمة لابد أن يكون للضعفاء خاصة نصيبفيها, و إن أولى ما يترجم به حقهم فيها هو توفير الضروريات لهم, و تأتي الخدمات الطبية على رأس هذه الخدمات الضرورية، خاصة و أن أغلب أنظمة الحكم تكفل توفير الرعاية الطبية لأفراد المجتمع كحق مواطنة.
  7. من الأمور المعروفة في مجال اقتصاديات الخدمات أن الخدمات الطبية من السلع الظنية غير المؤكدة و لا معروفة النتائج و غير معروفة التكاليف و غير متجانسة و لهذا فلا بديل من تدخل الدول فيها بقوة لضمان حد أدنى من الجودة و للحفاظ على أموال الناس و أعراضهم و دمائهم و لمنع الغبن الفاحش للمريض و التلاعب بصحته و ابتزاز أمواله بسبب جهله وعجزه وكل هذه الأمور ستؤدي في حالة تطبيق التأمين إلى حصول نتائج سيئة .

و للمرء أن يتخيل الحجم الاقتصادي للمبالغ  التي ستتولد في حالة تطبيق التأمين الصحي، حيث يمكن أن يصل حجم المبالغ في دولة  تعداد سكانها مثلاً 20 مليون نسمة،  و كان على كل فرد منهم أن يدفع 2000 ريالاً كقسط تأمين،  فإن مجموع هذه المبالغ تبلغ 40 ملياراً على الأقل.  و هو مبلغ ضخم خاصةً إذا قارناه بميزانيات كثير من وزارات الصحة فلو دفعت بعض هذه المبالغ مباشرة إلى وزارات الصحة أو إلى مؤسسة عامة أخرى أفلا يمكن أن يستمر تقديم خدماتها بجودة أعلى و للجميع و بدون استثناء بدلاً من أن تذهب هذه المليارات إلى خدمات ليست كافية بل و متحيزة  كما رأينا عند الكلام عن آثار التأمين.

 

أما البدائل فهناك بدائل عن التأمين الصحي في مجتمع مسلم يمكن الإشارة إلى بعضها كما يلي:-

 

       
   
 
23
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  1. إعادة هيكلة القطاع الصحي و إنشاء مجلس أعلى للصحة مهمته تنسيق و توفير الخدمات الطبية بطريقة يقبلها المجتمع تقلل من المخاطر و التكاليف بشكل حقيقي و يعمل على تطوير الأداء و الإدارة و المرونة و البعد عن المركزية. كما يمكن إنشاء مجالس محلية للصحة في كل منطقة. خاصة و أن كثير من المجتمعات ليست مشكلتها في قلة الموارد بل في ضعف إدارتها و توظيفها.
  2. لو جمع ما خصص لجميع الجهات الحكومية من موارد صحية - خاصة و هي جميعها من الموارد العامة للدولة- ضمن مؤسسة عامة واحدة تتولى الرعاية الصحة لكانت إيراداتها في بعض المجتمعات الإسلامية تمثل أعلى نسبة إنفاق على الصحة من الناتج المحلي عالمياً.
  3. تطوير نظام الأوقاف و تشجيع المحسنين وفق نظام مرن موثوق يسمح للناس بإيقاف جزء من أموالهم وفق الشريعة الإسلامية على الخدمات الطبية المقدمة للمحتاجين.
  4. تشجيع الجمعيات الخيرية على إنشاء المراكز الصحية و المستشفيات في أنحاء البلاد الإسلامية كجزء من الخدمات الاجتماعية و الصحية للفقراء، خاصة و أن القطاع الخيري مشهور بكفاءة و إنتاجية العاملين فيه خاصة في المجالات الإنسانية كالخدمات الطبية. كما أنهكفؤ في خفض التكاليف،فدافع العاملين فيه غير مادي حيث أنه يحسن اختيارهم من ذوي الدوافع الذاتية. كما يمكنه نشر ثقافة التطوع ببعض الوقت و المعدات بين العاملين و ملاك القطاع الصحي، خاصة و أن تكاليف المستوصف الذي يمكنه تقديم الرعاية الأولية بل و بعض الثانوية لبضعة آلاف من الناس، تعدزهيدة نسبياً،و الذين يعملون في القطاع الصحي يعرفون أن هذه التكاليفتكاد تنحصر في أجرة طبيب و طبيبة و ممرض و ممرضة و مبنى و قليل من الأجهزة.
  5. إنشاء و تشجيع المنظمات غير الربحية و الجمعيات التعاونية على تقديم الخدمات الطبية مقابل التكلفة فقط للقادرين و بتمويل من موارد الدولة أو الجمعيات الخيرية أو الزكاة لغير القادرين. و المنظمة غير الربحية تدفع أجر السوق للعاملين فلا تبخسهم حقهم لكي تستقطب الكفاءات و لكنها لا تراكم الأرباح على حساب الآخرين و لذلك فهي تصلح للخدمات الإنسانية. فيدفع القادر مادياً مقابل تكاليف علاجه الفعلية و غير القادر يمكن تمويله من المصادر الأخرى لضمان حصوله على ما يحتاج من علاج في صورة تكافلية إسلامية رائعة فالناس لا يطلبون العلاج فقط بل يطلبون أيضاً الأمن الصحي بمعنى أن يتيقن أنه لو أصابه أو أصاب أحد من أسرته طارئ أن يجد إسعافا ينقله في وقت سريع إلى مكان موثوق يحصل فيه على ما يحتاج و لا يكون عرضة لبيع بيته أو كل ما يملك أو قوت أطفاله لعلاج أحدهم. المجتمعات تفتقر إذاً إلى الأمن الصحي الذي ينبغي أن يتوفر في المجتمعات السوية.
  6. ثم يأتي دور القطاع الخاص ليقدم خدمات يتم تسعيرها و تحديد إجراءاتها تحت إشراف الدولة مقابل مبالغ تغطي التكلفة مع هامش ربحي معقول، لئلا تكون مجالاً لاستغلال حاجة المريض و جهله.
     
        إن تبني هذه الخيارات مجتمعة  – عند عجز موارد الدولة–  تقدم نظاماً صحياً لا مثيل له في العالم حيث  يحفظ للطبيب والخدمات الطبية الوجه الإنساني المشرق وينشر التكافل و يمنع الاستغلال والفساد الإداري ويحفظ الثقة فيه وأطبائه وذممه فيبقون فوق الشبهات.   
     
    المداخلات:-
    رئيس الجلسة: نشكر الدكتور مسفر على هذا العرض الممتع وأنا ضغطت عليه في الوقت لأني لا أريد أن أربط الإخوان كثيراً..  و المجال شيق و الأطروحات كانت في رأيي الشخصي ممتازة،  فلعلي أترك وقتاً للاخوة، نحاول ألا نطيل –إن شاء الله–  في حدود 12- 13 دقيقة، على أساس أن نصلي –إن شاء الله – الساعة الثامنة والثلث...
     
    فنبدأ الآن إذا كان هناك أي تساؤل أو مناقشة وندع الدكتور مسفر يجيب في الأخير ـإن شاء الله- تفضل.
     
     
    الدكتور عبدالله: بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ..
    أشكر الأستاذ الدكتور على جهده وعلى عرضه الجيد، وفي الحقيقة الموضوع يحتاج إلى كثير من التفصيل وخاصة أن المقام مقام تأصيل ويطرأ إلى التأصيل لأنه يدخل بالدراسة الفقهية والقانونية التي يُُُُرَدُّ فيها التأمين إلى أصل يكون سليماً وصحيحاً لكي يكون بديلاً عن التأمين الذي ذكر لنا الدكتور طرفاً من إشكالاته وسلبياته...
    معالي الدكتور بيَّن جوانب جيدة ومهمة تفتح ذهن الإنسان إلى أمور لم يكن من يتكلم عن التأمين يجلونها أو يظهرنها، وهي السلبيات التي تنجم عن التأمين إذا كان في ظل الفكر الرأسمالي وهو غالب ما عليه التطبيق اليوم ..  لكن الدكتور – بارك الله فيه – استقطع وقتاً طويلاً في المقدمة الاقتصادية وجاءت على حساب ما ينبغي أن يكون الكلام عليه في التأمين من الناحية التأصيلية، فسأتكلم عن بعض المسائل التي ذكرها الدكتور، والكلام تكاملي وليس تقاطعي أو على وجه المنافاة:
              يقول أن التأمين يتبع لعلم الاقتصاد، إن كان هكذا فلا نقدر أن نعمل شيئاً،  فصحيح أن الاقتصاد له علاقة بالتأمين لكن أنا ضد الحدية، مع أن الاقتصاد له علاقة بالتأمين،  وفي غير التأمين طالما أن غاية الاقتصاد هو أن يحصل على أفضل عائد بأقل كلفة، فأي موضوع يترتب عليه كلفة مالية ونريد أن نديرها بهذه العملية تكون هذه الإدارة وهذا التفكير من قبيل علم الاقتصاد.. لكننا إذا تساءلنا و قلنا ما هو التأمين؟ سنقول هي معاملة بين أطراف معينه، إذن هي فعل من أفعال المكلفين، و أفعال المكلفين موضوعها هو علم الفقه، و في الحقيقة أنني أدخل في علم فقه المعاملات و لهذا علم فقه المعاملات يعنى بالبيع و الشراء و الضمان و الرهن...الخ.

          الأمر الثاني: الدكتور تكلم عن المشكلة الاقتصادية، مع أنه ذكر أننا لسنا مع إطلاق المذهب الرأسمالي فيها لكنني بودي أن أبين أن المشكلة الاقتصادية في واقع الأمر غير مسلمة بكل حذافيرها لأن الله تعالى يقول:  {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21} سورة الحجر   و ما يواجهه الناس من نقص يزعمونه مشكلة تجده عند الاستقصاء يرجع إلى سلوك الناس.. أما المخالف للشريعة أو المقصر في بذل الأسباب و في طلبها.           

          ثم إنه فيما يتعلق بالشيوعية عند التساؤل لمن يُنتَج في النظام الشيوعي و كان الجواب: إنه للجميع بالتساوي، و الحقيقة هذا الذي يظهره النظام الشيوعي، لكن في التطبيق واقعاً ليس الإنتاج للجميع بالتساوي و لكن هناك الطبقية كما هو الشأن في النظام الرأسمالي و لكنها أخف و المشرفون القائمون على النظام هم الذين يستولون على الثروة و الشعوب تتساوى في الحرمان لا في الإنتاج.

          مسألة أخرى ألا و هي: أن الدكتور ميز بين الإسراف و التبذير، و هذا لا يظهر لي أن اللغة تسعفه، لكن إن كان الاقتصاديون اصطلحوا على هذا لربما أما أن يكون ذلك ما يستفاد من اللغة فلا يظهر لي، و يقول تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا {26} سورة الإسراء  فدل أن الذي لا يلتزم بالحق و يجاوزه أنه مبذر و التبذير هاهنا هو شقيق الإسراف. شكراً لكم، و لكني أدعو إلى أن تعقد ندوة أخرى للتأصيل و يكون موضوعها قانوني و فقهي لأن هذا هو تأصيل المعاملة لكي تتجه الوجهة التي نريدها، شكراً لكم.

 

          رئيس الجلسة: جزاك الله خيراً.

         

بسم الله الرحمن الرحيم

          محمد البنيان: هيئة السوق المالية، أستاذ قطاع الإدارة الصحية في معهد الإدارة سابقاً...

          شكراً لك دكتور مسفر والحقيقة أتحفتنا بمعلومات قيمة وكنا نريدك أن تستمر إلى آخر ما في جعبتك, لكن هناك اقتراح, وهناك سؤال, الاقتراح يقول: ربما لو تعمم هذه المحاضرة أو مثل هذه الدروس التوعوية على المجتمع بحيث يدرك حجم المشكلة القادمة المتعلقة بالتأمين تحديداً.

          والسؤال يقول: بطرحك للبدائل دكتور مسفر ما هو الحل من وجهة نظرك؟ قد يكون لديك عدة خيارات كحلول ولكن ربما أن يكون هناك مشاركة من الجميع في بعض الحلول لكي تصبح فعلاً حلول. شكراً لك...

 

          بسم الله الرحمن الرحيم

          عبدالله بن عبد اللطيف العقيل: مدير عام مركز الإدارة القيادية الشاملة للاستشارات, أشكر الدكتور شكراً جزيلاً على المعلومات القيمة, تمنينا حقيقة تمديد الوقت في مثل هذه المحاضرات, ساعة إلا ربع لا تكفي لموضوع مثل هذا الموضوع الضخم متلاطم الأطراف كالبحر الهائج، أتينا ونحن متعشمين على معلومات ضخمة نتوقع الدكتور يحملها لنا, اقتضاب الوقت حرمنا من كثير من المعلومات, فأتمنى أن تراعى هذه المسألة في المستقبل.

          المسألة الثانية: نحن لم نعلم بهذه النقاط, أهمية الموضوع ضخمة, لا أدري ما هي الآليات الإعلامية عند الندوة أتمنى أن يكون هناك تواصل أكبر وأتوقع أن شريحة ضخمة من الناس لو علموا بهذا الاجتماع لكانت القاعة قد اكتظت ولم نجد مكاناً حتى نجلس فيه, وجزاكم الله خيراً على هذا العمل, والسلام عليكم...

 

          رئيس الجلسة: نشكر الأخ عبدالله والحقيقة أن الناحية الإعلامية قد لا تكون بذاك الشكل لأنها تركز على طبقة الأساتذة, فمن ناحية الانتشار على الجمهور ليس هناك جهد في هذا الجانب, لكن إن شاء الله في مرحلة لاحقة لعلنا نعمل على هذا.

          هل هناك أحد يريد أن يدلي بمداخلة قبل أن نترك المجال للدكتور مسفر حتى يجيب على التساؤلات المطروحة؟ حسناً تفضل دكتور...

          الدكتور مسفر: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...

          ذكرني الأستاذ محمد بقضية حجم المشكلة, حجم المشكلة ضخم إلى درجة كبيرة, لك أن تتخيل حجم التسرب والهدر الذي سيحدث بسبب تطبيق التأمين انظروا إلى المليارات التي ستذهب على خدمات غير موجودة فشركات التأمين تأخذ ولا تدفع إلا نسباً قليلة جداً لمن يطالبون, هذا بالإضافة إلى أنها كثيراً ما تتهرب ولهذا فهي أكبر من يوظف القانونيين لكتابة العقود التي لا يكتبها إلا القانوني والسطور الدقيقة ثم للتهرب من الدفع, هذه كلفة, أما الكلفة الأخرى: أن هؤلاء الذين سيستبعدون, وهم الذين يحمِّلون وزارة الصحة شيئاً ضخماً, ولا يوجد مفر إلا أن يُعالَجون إن استطاعوا على حسابهم أو الحكومة ستتكفل بهم.

          أضف إلى هذا أن شركات التأمين تعمل على تسريب هذه المليارات بعيداً عن القطاع الصحي هذا من جهة, ومن جهة أخرى أن هذه التسربات تذهب إلى ما يسمى بإعادة التأمين, والشركات المحلية الموجودة هنا ستبقى مكاتب وواجهات, وهذه المليارات كلها ستذهب إلى الخارج, وأنتم تعرفون أن التسرب إذا زاد فإن قدرة الاقتصاد تنخفض, وقدرة الاقتصاد إذا انخفضت فهذا ضعف كبير كما يعلم الاقتصاديون.

          البدائل في وجهة نظري, أنا أعتقد أنه إذا عجز القطاع الحكومي ولا أعتقد أن المشكلة في الموارد بل المشكلة في إدارتها, فربما القطاع الخيري هو البديل ليبقى الوجه الإنساني للطب, لكن لا يفهم أن القطاع الخيري سيتصدق على الجميع, بل يقدم خدمة للقادر فيدفع مقابل تكلفته, وغير القادر تقدم له الخدمات مجاناً عن طريق الأوقاف أو الزكاة والصدقات, فهذا هو البديل لأنك إذا أدخلت الربح في الخدمات الطبية فسدت ذمة الطبيب, وابتُزَّ المريض, إذا ألزمته كأنك تمسكه لهؤلاء التجار ليفعلوا به ما شاءوا، و الطبيب إذا لم يُختار بعناية، و لسوء الحظ في كثير من المجتمعات لا  يختار في السنوات الأخيرة بعناية مع أنه الوحيد الذي يدرس أخلاقيات المهنة لأنه مؤتمن على الأموال و الأعراض و الدماء، و إذا ضغط عليه ثم لم يعد ثقة تعرفون ما الذي سيحدث. مرة أخرى فالبديل إذا لم يوجد قطاع حكومي إذاً هو القطاع الخيري و المنظمات غير الربحية، هذا هو البديل الذي أعتقده و يجب أن يتكاتف المجتمع كله لتحقيق ذلك.

          بالنسبة للدكتور عبدالله: لأننا نؤصل أطلنا قليلاً في قضية الاقتصاد، و لو كان لدينا وقت لضربنا لكم الأمثلة على كون  الاقتصاد من أكثر العلوم ظلماً، كثير من التطبيقات الرأسمالية تنسب إلى الاقتصاد و هو منها بريء حتى هرب من تخصص الاقتصاد الكثيرون لأنهم يعتقدون أن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا أو على الرأسمالية...الخ.

أما قضية التكامل: نعم كل العلوم تتشابك مع الاقتصاد، و لكن عندما يكون هناك مال و اختيار و توظيف أمثل هذا محور اهتمام الاقتصاد، لماذا التأمين الصحي يعتبر بديلاً ليس جيداً؟ لأنه سيهدر موارد المجتمع لأن الموارد يجب أن تذهب إلى الهدف فإذا بعدت بعيداً عن الهدف أهدرت الموارد، و لماذا تُهدر؟ لأنك خرجت عن النظام الاقتصادي، و بالمناسبة النظام لاقتصادي كما رأيتم فهو مجموعة العقائد و القيم و العادات و الظروف، فكل هذه مؤثرة في سلوك الناس الاقتصادي.

          أما عن كون المشكلة الاقتصادية غير مسلَّمة، فهي غير مسلَّمة إذا قيل أن هناك ندرة مطلقة و هي التي قال بها بعض الاقتصاديين الغربيين مثل مالتس الذي يقول إن الموارد تتزايد بمتوالية حسابية 1، 2، 3، 4  بينما الحاجات و الرغبات و السكان يزيدون بمتوالية هندسية 1، 2، 4، 8، 16، 32.  بالتالي ستزيد حاجات الناس و لا يبقى شيء من الموارد يكفي، نحن لا نقول بهذا بل نقول بأن الموارد كثيرة والله سبحانه و تعالى أنزل من الخيرات ما يكفي أضعاف البشر على الأرض بدليل أن عشر الأرض الصالحة للزراعة فقط مستغل، و أيضاً بدليل أن الفوائض ترمى في البحار من قبل الأنظمة الأخرى... و الأدلة كثيرة، لكن المشكلة موجودة، لماذا؟ لأن أمامك اختيارات كثيرة و رغبات بعضها حقيقي و غير حقيقي، فعلى سبيل المثال: عندما يقرر الناس أن يدخنوا، و تصبح لدينا 15 مليار سيجارة في السنة في المملكة، هذه ليست بحاجة و لا بضرورة و لا بكمالي و لا حتى إسرافي بل هي تبذير لأنها موارد و أنتم رأيتم الموارد دخلت و ذهبت في عملية الإنتاج و خرج منها إنتاج و لكن هذا الإنتاج ذهب ليضر.

             أما عن الفقر و أن سببه التقصير في طاعة الله: فليس بالضرورة لأنه ابتلاء، و الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أطوع الناس لله و مع هذا كانوا فقراء، فهو ابتلاء يبتليهم الله بالخير أو الشر  قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31} سورة الأعراف  و قال جل و علا: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا {26} إِنَّ الْمُبَذِّرِين كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا {27}سورة الإسراء.  ‏فالإسراف حتى في لغة القرآن نفهم منها أن الإسراف سيئ  لكن التبذير أسوء منه، فالإسراف عندما تسرف في مباح، غذاء بدل أن يذهب لسد حاجة الناس  يرمى في المزابل، لكن التبذير موارد أعطت إنتاج و لكن هذا الإنتاج من أصله مضر، مثل التدخين و الإعلام الهابط و الرياضات الخطرة، و لهذا أعتقد أن الفرق واضح. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (التبذير: الإنفاق في غبر حق)، و قال قتادة: (التبذير: النفقة في معصية الله تعالى). 

            أما التقصير فقد أقصر فأعاقب، و أطيع فينعم الله علي بالموارد، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {96}سورة الأعراف.  فلذلك الله جل وعلا يمتحننا و لو كنا طائعين بالفقر، و قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {10}‏ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل  لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا {12}سورة نوح.   نحن نعلم بأن الله جل و علا هو منزل الموارد، فهو وزعها بغير تساوٍ لحكمة شاءها، فأعطى هؤلاء البترول و أعطى هؤلاء الماء و هؤلاء أعطاهم الغابات و أولئك  المراعي لحكمة شاءها، و لكن ليست معصية الله السبب الوحيد للفقر على أية حال الحديث ذو شجون و أشكر للدكتور عبدالله مداخلته، و إذا أردتم أن أختم بشيء فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو أصل مسألة التأمين التعاوني و هو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد  بالسوية فهم مني و أنا منهم) و هذا في صحيح البخاري و مسلم (متفق عليه)، هذا هو التكافل. و أيضاً ما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هل تنصرون و ترزقون إلا بضعفائكم).‏  فهل يهملهم المجتمع المسلم بل و يبتزهم، و لهذا أقترح في الختام و نحن نأصل أن نستبعد لفضة التأمين لا تعاوني و لا تجاري لأنني أعتقد أن هذا المصطلح دخيل، و أعتقد أنه ربما دس ليستغل و لا استبعد أن جهة ما قد دسته و لهذا نعود إلى الأصول الإسلامية فنسعى لحصول المجتمع على ما يمكن أن  نسميه "تكافل صحي"  ليبقى للقطاع الصحي إشراقه  و يستبعد الربح و التجارة و الابتزاز و إهدار الموارد، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

          رئيس الجلسة: جزاك الله خيراً، الحقيقة نشكر الدكتور مسفر، و نشكركم على الحضور و نسأل الله تعالى أن يجعل هذا في ميزان حسنات الدكتور مسفر، و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك و نتوب إليك.

                            

 

 

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 

نوع عمل المنشور
مرجع
اسم الناشر
الندوة العالمية للشباب الأسلامي
مدينة النشر
الرياض
مزيد من المنشورات
publications

الندوة العالمية للشباب الإسلامي
     لجنة التأصيل الإسلامي للعلوم
         لجنة المكتبة و قواعد المعلومات
 
 
 
 
 
 
 
 
 …

بواسطة مسفر بن عتيق الدوسري
1429
تم النشر فى:
الندوة العالمية للشباب الأسلامي