تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

أ. د. راشد بن حسين العبد الكريم

Professor

قسم المناهج وطرق التدريس

التعليم
0000
مدونة

الريسوني والريال السعودي

الريسوني والريال السعودي
 إن من علامة الخذلان أن يأتي شخص ليذم شيئا فيمدحه، وأن يقصد ليمدح شيئا فيذمه دون أن يشعر. وهذا ما وقع فيه الريسوني في مقاله (الإسلام السعودي). فهو مقال يبعد كل البعد عن تحقيق العلماء وتؤدتهم وتحريهم للعدل والإنصاف، وينزع إلى فجور أهل الأهواء في الخصومة، وتهويل الغوغاء وسَوَقة الصحفيين من أهل الأحقاد والأضغان.
فالعالم تحصل منه السقطة فتحتمل، وتكون منه الزلة فتستر، وتنبو منه الكلمة فيتغاضى عنها، لأنه بشر، ولأن الاختلاف وارد ومتوقع. لكن مقال الريسوني حوى حِمالة تاريخية ونفثات نفسية تجعله أكثر من زلة أو سقطة عابرة. هو كشف عن أمر داخلي نفسي، من الواضح أنه كان يغلي لعقود في صدر صاحبه، لكن كان هناك ما يقهره ويمنعه. حتى جاء الوقت الذي ظهر فيه. ولن يصعب علينا بنهاية هذا المقال أن نكتشف ما الذي حدث حتى يظهر ما كانت تخفيه الصدور.
لن أناقشه في الاتهامات والشتائم التي تعودنا عليها من العلمانيين ومخلفات الماركسيين والمتحزبين والحاسدين، فليس فيها جديد. الجديد فيها أنها أتت هذه المرة من شخص كنا نحسبه من أهل العلم، لكنه غلب عليه هواه وحزبيته، ولربما قلَص عنه الريال ونداوته، أو أقبلت عليه فرصة أخرى، ومثله خبير في اقتناص الفرص. هذا هو الجديد، الذي ينبئ عن سقوط الريسوني أكثر مما ينبئ عن أي شيء آخر.
والمقال حوى، على غير عادة أهل العلم، خلطا بين السياسي والديني والاجتماعي، بطريقة لا تليق بصغار الصحفيين، ويستحيي منها من ينتسب إلى العلم، فضلا عمن يريد أن يقوّم الإسلام السعودي. فالمقال يكيل التهم دون تفصيل أو تحديد أو أمثلة.
ولن أتتبع كل مجازفات المقال وأغلاطه، فهذا يطول. إنما سأقف عند ثلاث نقاط تتضح لكل قارئ منصف. (أولها الاعتراف بالأثر السعودي الإيجابي، وثانيها لماذا هذا المقال الآن، وثالثها دعمه للتكفير والتضليل الذي ينبز الإسلام السعودي به!)
بدايةً، يقرر الريسوني أنه " منذ أزيد من نصف قرن تمكنت المملكة العربية السعودية – بفضل إمكاناتها المالية النفطية الضخمة، وموقعها الجيو/ديني – تمكنت من تحقيق نفوذ ثقافي ودعوي وسياسي كاسح، تمدد عبر العالم كله، وشمل العالم الإسلامي بصفة خاصة. وبذلك انتشر وساد هذا الذي أسميته “الإسلام السعودي”. وأصبح معظم المتدينين والدعاة وأبناء الحركات الإسلامية متأثرين بهذا النمط “الإسلامي”، بدرجة من الدرجات..."
الحمد لله! نعم تمدد الإسلام (الذي يسميه "السعودي") وتأثر به "معظم المتدينين والدعاة"، فما الذي حصل؟ فقد رأينا في هذا التمدد رجوع الناس لممارسة شعائر الدين الظاهرة، والتمسك بالسنة، وانتشار طلب العلم حتى في البلدان غير الإسلامية، وانتشار المساجد، والبعد عن الخرافة في الاعتقاد والسلوك، وانتشار الأعمال الخيرية والدعوية. نعم هناك أخطاء، لا يسلم منها حركة دينية اجتماعية. ولو تأملنا هذه الأخطاء لوجدنا أغلب مصادرها أو عواملها المؤثرة من خارج البلاد السعودية، وبتأثير من الحزب الذي يتعاطف معه الريسوني ويدافع عنه، وربما ينتسب إليه.
فالريسوني يعترف بأن السعودية أسهمت فيما حصل من انتشار الخير بين المسلمين في الخمسين سنة الماضية. وهو يعرف أن كثيرا من المتدينين ومعظم الدعاة من المتعلمين بل فيهم من هو نخب المجتمعات الإسلامية. فلا يعقل أن يروج عليهم تدين مغشوش أو خرافات يخترعها العوام وأشباههم. فهم إنما قبلوه ثقة بعلمائه الذين لم تغيرهم نداوة الريال، ولم يلتفتوا إليها أصلا!
 
النقطة الثانية، حوى المقال من التهم للسعودية ولمشايخها الكثير مما لا يعجز عنه كل من لا يجعل لكلامه زماما ولا خطاما، ومن لا يستحضر أنه مسؤول عن هذه التهم أمام الله وسيحاسب عليها إن لم يعلن توبته عنها. وهذه التهم لا تعنينا الآن، لأنها لا تحتاج لتأليفها إلا إلى الكثير من .. الجهل! ولا تحتاج إلى ردها إلا إلى قليل من العقل. الذي يعنيني هو لماذا هذا الكلام الآن وقد اندحر وأفَلَ الإسلام السعودي؟! طالما أنك تراه أفل واندحر، فلماذا هذا الهجوم وهذا التهور؟ 
وسؤال للريسوني: إذا كان هذا رأيك في الإسلام السعودي، فلماذا سكتّ ولم تتكلم إلا الآن؟ عندما أيقنت أنه اندحر وأفل؟! أتراه انقطع – أو قُطع - أملك من ذلك الريال؟ أم لاحَ لك برقُ طمعٍ، تحسبه أندى ريالا؟! أفكلُّ هذه الأوصاف أكتشفتها الآن؟ فجأة؟! بعد أن اندحر الإسلام السعودي وأفل ولم يعد رياله نديا؟! إن صح ما تقول فأنت تعلن عن نفسك بأنك مداهن خائن للأمانة ناقض للعهد الذي أخذه الله على العلماء.
أما اندحاره، فهو مما تمنيك به نفسك ويصوره لك شيطانك. وإن صح، فهي سنة الله التي كان يجب ألا تغيب عن عالم. لكن ماذا نفعل بمن يؤثر فيه طقس الريال؟! أتراك تجهل: (وتلك الأيام نداولها بين الناس...) أوَغفَلَ قلبك عن: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا...)؟ وماذا نفعل بمن تتلاعب بدينه تضاريس السياسة!؟
والسقطة الثالثة التي وقع فيها الريسوني هي لمزه لمشايخ السعودية بالتكفير والتضليل. يقول في وصف الإسلام السعودي: 
"التعامل مع المسلمين والحكمُ عليهم من خلال ثقافة التكفير والتضليل والتبديع، شعوبا ومذاهب وطوائف وأفرادا… بل حتى كبار العلماء – القدماء والمعاصرون – لا يسلمون من تضليلهم وتبديعهم وحملاتهم، وقد يصل الأمر إلى حد تكفيرهم" .
وأنا أسأل الريسوني: وما الذي تفعله أنت الآن مع الإسلام السعودي وأتباعه المنتشرين – بشهادتك أنت في العالم الإسلامي كله – إلا التكفير والتضليل والتبديع؟! فأنت ضلّلت السعوديين ومشايخهم وحكامهم، بل وكل من سار على نهجهم من المسلمين خلال الخمسين سنة الماضية.
ثم إن الريسوني هذا الذي يتهم الإسلام السعودي بالتكفير، يثني ويمجد ذلك الندويّ، الذي لقّبه بشيخ علماء الهند، مع أنه لم يشتهر إلا بالتكفير والثناء على من يكفر المسلمين وحكامهم، ولم يُستضف في الخليج إلا لأنه مكفِّر!! والريسوني يعلم أن كل ما أُلصق بالإسلام السعودي من التكفير إنما هو بتأثير المشايخ والجماعات التي هو يدافع عنها. ولا أظنه يخفاه اعتراف القرضاوي – والعهدة عليه - بأن التكفير خرج من عباءة سيد قطب، وهو من أدرى الناس بسيد قطب وكتبه. فقليل من العلم يكفيك لو بحثت في مصادر التكفير والتبديع والتضليل بالباطل لوجدتها من خارج الدولة السعودية، ولا يخفاك من نشَر فكرة جاهلية المجتمعات الإسلامية، ولا تجهل أول جماعة في العصر الحديث انشقت وانحازت عن جماعة المسلمين. كل هذا تعرفه، فيما أظن، لكن لم تكن نداوة الريال كافية لتذيب قساوة فهمك لتقتنع به. 
 
ومع أني لا أريد أن أنساق مع تصور الريسوني المريض في تقسم الإسلام إلى سعودي وغير سعودي، لكن لا بد من ذلك هنا، تنزلا، وللمقارنة فقط، ولذلك أسأل: وما الذي قدمه الإسلام غير السعودي؟ لقد انكفأ على خرافته يذود عنها بما تبقى له من قوة، وزاد في إعطاء التنازلات لينال القبول من العدو والصديق، وانشغل على ضعفه في طعن الإسلام السعودي من الظهر. واستمات في بعث التقليد والجمود على الآراء الكلامية العتيقة التي فرقت الأمة. وقد فرح الريسوني بنتائج هذا. فلا يخفى سروره بما يدعيه من انتعاش المذاهب الصوفية والفقهية والكلامية. وكأنه كان يغيظه من توحد الناس في العقود الماضية وتوافقهم على نبذ التعصب لهذه المذاهب وترك السعي في إحيائها.
خلاصة الكلام أن الريسوني رأى أن ما أسماه الإسلام السعودي لم يعد مفيدا من الناحية المادية (حيث حيل بينه وبين نداوة الريال) ولم يعد مفيدا من ناحية الجاه والشهرة، حيث انبعثت الأهواء ورفعت المذاهب رأسها، فهو يريد أن يتدارك نفسه، لكي لا يخرج "من المولد بلا حمص" – كما يقال! فكتب هذا المقال قربانا، لأنه غلب على ظنه أن الإسلام السعودي لم يعد "يؤكل عيشا". وأنا أطالب الريسوني أن يكون شفافا ويخبرنا عن سيرته مع الريال والدرهم. لنعرف هل السبب هو نداوة الريال أم طراوة النفوس!! والريسوني، على أي حال، ليس أول المتساقطين ولا آخرهم. وسيظل الإسلام بسلفيته وأثريته وفطريته ونقائه، الإسلام الذي تشرفت الدولة السعودية بخدمته وحفظه، سواء سماه "علماء الموضات" إسلاما سعوديا أو غير ذلك، سيظل محفوظا بحفظ الله، وسيظل أهله قائمين به، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله.
 أ.د. راشد العبد الكريم