تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

د. ياسر هاشم عماد الهياجي

Associate Professor

عضو هيئة تدريس | أستاذ مشارك | قسم إدارة موارد التراث والإرشاد السياحي

كلية السياحة والآثار
مكتب رقم 164 | الدور 2 | مبنى 11 | كلية السياحة والآثار
مدونة

الإعلام والتراث بين الإحياء والتجريف

يعيش العالم اليوم عولمة تكنولوجية شرسة في ظل الإعلام الرقمي، أثرّت بشكل كبير على ثقافة المجتمعات الأخرى، والتراث الثقافي -بكل أشكاله- ليس بمنأى عن هذه التأثيرات التكنولوجية التي مست جميع مجالات الحياة، بل إنه الأكثر عرضة وخطورة لارتباطه بالهوية الثقافية للمجتمعات، وخاصةً في ظل هذه المرحلة المعقدة والمتعددة الجوانب، التي تشهد نمو قطاعات الإعلام، وظهور وسائل إعلامية جديدة، فرضت نفسها وأشركت غالبية الناس في صياغة محتوياتها، إلى جانب كونها أضحت مصدرًا هامًا للمعلومة كوسائل التواصل الاجتماعي.

لعل أبسط مثال على هذا التأثير، الانتشار الواسع لثقافة الوجبات السريعة التي طغت على نمط حياة الناس، ليس فقط في استحواذ مطاعم العلامات التجارية الغربية على أذواق الناس ورغباتهم على حساب الخمير والمنسف والحنيني والحميس وغيرها من المأكولات الشعبية التراثية، بل تعدّى ذلك إلى اختفاء حميمية العلاقات الاجتماعية التي كانت تظهر على موائد الطعام، حيث قضت الوجبات السريعة - التي لا تتيح للزبائن الجلوس لفترات طويلة - على النظام الاجتماعي في التفاعل المباشر بين أفراد العائلة الواحدة.

لقد ساعد الإعلام بشكل كبير في تغلغل ظاهرة العولمة بداخل المجتمعات، محدثًا بذلك شرخًا كبيرًا بين الأفراد وتراثهم، وما نتج عن ذلك من إشكالات عميقة في الثقافة والمنظومة القيميّة الأصيلة للتراث الذي يحوي كل ما خلّفته الأمم والشعوب من أشكال ثقافية وفنية وفكرية.

وحتى لا يتهمنا البعض بإلغاء الدور الفاعل للإعلام على مقتضيات التراث، فإننا سننصف الإعلام من خلال الإشارة إلى العلاقة القائمة بين الإعلام والتراث، وهي علاقة تفاعلية متبادلة يخدم كل منهما الآخر، إذ ينبغي أن يستفيد التراث من الإعلام في الوصول بشكل أوسع إلى الجماهير والتعريف به، في حين يستفيد منه الإعلام في الحصول على منتج إعلامي مميز، وبتوصيف آخر يمكن القول إن العلاقة بين الإعلام والتراث علاقة ارتباطية أشبه ما تكون بين طرفين أحدهما مصنع لإنتاج الهوية، والآخر من يقوم بحمايتها أو تدميرها، وبذلك مثلّث تلك العلاقة وبوضوح عاملًا مؤثرًا أسهم في بعض الأحيان في تنمية التراث وتقديره ونشر الوعي بأهميته، في حين أسهمت العولمة التي روّج لها الإعلام بآلياته المختلفة وعبر الوسائط المتعددة للإعلام الرقمي؛ بإحداث اختراق ثقافي أدّى إلى طمس خصوصيات التراث الثقافي والثقافة الوطنية وزعزعة العادات والتقاليد، وبروز تيارات ثقافية تتعارض مع تراث المجتمع المحلي بشكل يتنافى مع وظائف الإعلام التي حددها «هارولد لازويل» بأن تعمل على نقل الموروث الاجتماعي، في ظل كثير من عوامل التحولات الثقافية الهائلة، والاستلاب الحضاري الذي يحدث نتيجة استقلالية الإعلام الرقمي عن المؤسسات الرقابية.

هذا الطرح يقودنا إلى التأكيد على دور الإعلام وتأثيراته الإيجابية في تأصيل التراث وحمايته وتطويره، وإلى التحديات التي يواجهها التراث الثقافي في ظل العولمة والإعلام الرقمي، وما يشكله من خطر يتهدد طمس الهوية الثقافية للمجتمعات، والتأثيرات السلبية للمنصات الرقمية على التراث في ظل غياب الرقابة الفعالة عليها، وما أسهمت به في تجريف وتدمير كثير من العناصر التراثية وعدم احترام نزاهة التراث مما ينذر بتوقفه خصوصًا إذا علمنا أن التراث هو صنعة بشرية مستمرة لا تتوقف عند جيل فهو يعني ديناميكية تحاور الزمان والمكان والأفكار. ودمتم طيبين.

د. ياسر هاشم الهياجي