تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
User Image

د.يحيى بن حسين الشريف

Assistant Professor

أستاذ القانون التجاري المساعد

كلية الحقوق والعلوم السياسية
كلية الحقوق والعلوم السياسية- قسم القانون الخاص- مكتب أ21
مدونة

التطور التاريخي للتحكيم في السعودية

التطور التاريخي للتحكيم في المملكة العربية السعودية
مقال منشور بصحيفة مال بتاريخ 12أبريل 2020
 

يعد التحكيم من أهم الوسائل البديلة لحل النزاعات بشكل عام، وتلك المتعلقة بالعقود والمنازعات التجارية بشكل خاص، إذ أصبح من الصعب خلو العقود التجارية بمختلف أنواعها من شرط التحكيم، والذي بموجبه يتم فض النزاعات الناشئة بين الأطراف بواسطة هيئة تحكيمية بدلاً عن القضاء صاحب الولاية العامة. ويكتسب التحكيم أهميته من خلال تمتعه بعدد من المزايا أهمها إمكانية تحديد المدة المطلوبة للفصل في النزاع، وسرية الجلسات والمرافعات وعدم إمكانية نشر الأحكام إلا بعد الحصول على موافقة الأطراف.

وقد عرفت المملكة التحكيم كوسيلة بديلة لحل النزاعات لأول مرة عندما تم إدراج شرط التحكيم في اتفاقية امتياز التنقيب عن نفط الأحساء الممنوح للشركة الشرقية والنقابة العامة المحدودة التابعة للبريطاني فرانك هولمز في عام 1923م/1341هـ. كما أدرج شرط التحكيم في عقود النفط الأخرى الموقعة مع شركات البترول المختلفة، كعقد الامتياز الممنوح لشركة ستاندرد أويل أف كاليفورنيا (سوكال) في عام 1933م/1351هـ، وكذلك العقد المبرم مع الشركة اليابانية للبترول في عام 1955م/1375هـ.

 أما على الصعيد التنظيمي، فقد أُفرد للتحكيم المواد من (493 – 497) من نظام المحكمة التجارية الصادر عام 1351هـ، نُظمت بموجبها بعض المسائل المتعلقة بالتحكيم بشكل مختصر كاتفاق التحكيم وتشكيل هيئة التحكيم ومدة التحكيم والطعن على حكم التحكيم.

تلى ذلك صدور اللائحة التنفيذية لنظام الغرفة التجارية الصناعية الصادر عام 1365هـ، والتي أعطت التجار الحق في اللجوء إلى الغرفة التجارية الصناعية للفصل في النزاعات الناشئة بينهم بواسطة التحكيم.

ثم جاء بعد ذلك نظام الشركات في عام 1385هـ والذي منح مدير الشركة الحق في اللجوء إلى التحكيم. وبعد حوالي أربع سنوات صدر نظام العمل والعمال في عام 1389هـ، والذي منح طرفي العلاقة العمالية حق اللجوء إلى التحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات العمالية.

وفي عام 1400هـ صدر نظام الغرف التجارية والصناعية مقرراً اختصاص الغرف التجارية بالنظر في منازعات التجار والفصل فيها بواسطة التحكيم في حال اتفق الأطراف على إحالة النزاع إليها، وبينت اللائحة التنفيذية الصادرة عام 1401هـ إجراءات التحكيم أمام الغرف التجارية.

ونظراً للحاجة إلى نظام تحكيم مستقل ومتكامل ينظم كافة مراحل العملية التحكيمية بدأً من اتفاق التحكيم مروراً بتشكيل الهيئة وإجراءات التحكيم أمامها وانتهاءً بصدور الحكم والاعتراض عليه وتنفيذه، فقد صدر في عام 1403هـ أول نظام تحكيم مستقل في المملكة متضمناً خمساً وعشرين مادة، بالإضافة إلى لائحته التنفيذية الصادرة عام 1405هـ والمتضمنةً لثمانٍ وأربعين مادة.

إلا أنه مع مرور الوقت ونتيجةً للتطور الاقتصادي الذي مرت به المملكة، ولسد الثغرات الواردة بالنظام، والحاجة لمواكبة صناعة التحكيم على المستوى الدولي، قامت المملكة بإصدار نظام تحكيم جديد مشتملاً على 58 مادة في عام 1433هـ متماشياً ومتسقاً في كثير من أحكامه مع القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي (الأونيسترال)، بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام في المملكة، وصدرت بعد ذلك اللائحة التنفيذية في عام 1438هـ مشتملة على 19 مادة. وفي نفس العام الذي صدر فيه النظام الجديد، صدر نظام التنفيذ السعودي الذي قرر بأن أحكام التحكيم تعتبر سندات تنفيذية، الأمر الذي انعكس إيجاباً على انتشار الثقافة التحكيمية تدريجياً، وأدى إلى تخفيف - ولو جزئياً - العبء الملقى على عاتق قضاء الدولة.

ولم يقتصر الاهتمام بالتحكيم على التنظيم الداخلي، بل امتد ليشمل الانضمام والتوقيع على العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم، ففي عام 1372هـ وقعت المملكة على اتفاقية تنفيذ الأحكام بين الدول العربية والتي قررت إمكانية تنفيذ أحكام التحكيم دون إعادة فحص موضوع الدعوى وحددت الحالات التي يرفض فيها تنفيذ أحكام التحكيم، ثم في العام 1400هـ انضمت إلى اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى (الاكسيد)، ثم وقعت على اتفاقية الرياض المتعلقة بالاعتراف بأحكام المحكمين في عام 1403هـ، أعقب ذلك التوقيع على اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي لعام 1406هـ والتي تشتمل على الاعتراف بأحكام المحكمين وتنفيذها بين الدول العربية، تلى ذلك في عام 1414هـ الانضمام إلى واحدة من أهم الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم وهي اتفاقية نيويورك الخاصة بالاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وأخيراً في العام 1418هـ، تم التوقيع على اتفاقية الأحكام والإنابات والإعلانات القضائية بدول مجلس التعاون الخليجي والتي قررت في أحكامها الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها دون إعادة فحص موضوع الدعوى.

ولا شك أن إنشاء عدد من مراكز التحكيم في السنوات القليلة الماضية، يعد جزءاً من عجلة التطور في صناعة التحكيم المؤسسي في المملكة، إذ تم تأسيس المركز السعودي للتحكيم التجاري في عام 1435هـ والذي يعمل تحت مظلة مجلس الغرف السعودية، تلاه مركز التحكيم الرياضي السعودي في عام 1437هـ، وأعقب ذلك في نفس العام إنشاء اللجنة الدائمة لمراكز التحكيم السعودية المختصة بالترخيص والرقابة على مراكز التحكيم الحالية والمستقبلية. وقد قامت هذه اللجنة بالترخيص لعدد من المراكز، كان أولها للمركز السعودي للتحكيم العقاري والذي يعمل تحت مظلة الهيئة العامة للعقار، والرخصة الثانية كانت لمركز التحكيم الهندسي والذي يعمل تحت مظلة الهيئة السعودية للمهندسين، والثالثة لمركز هيئة المحامين للتسوية والتحكيم والذي يعمل تحت مظلة الهيئة السعودية للمحامين. 

ويأتي هذا التوسع والتطور في صناعة التحكيم متناغماً ومتماشياً مع رؤية المملكة الطموحة 2030 التي تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع الاستثمارات المحلية وتخفيف العبء عن كاهل القضاء الوطني من خلال إيجاد وسائل بديلة ومراكز تحكيم متخصصة لحل النزاعات.